سابقاً لعصره بسنوات إن لم نقل لعقود، سوبرمان وسبايدرمان زمانه في طبيعة التفكير والذهنية، عزمَ على تحقيق ما كان يحلم به منذ الطفولة، حينما كانت تأخذه أحلام اليقظة وهو مستلقٍ واضعاً رأسه على وسادة استعداداً للنوم، يشرد بتفكيره بما يفوق الخيال العلمي، أفكار تأخذه إلى مكان يصعب على العقل البشري أن يتقبلها، فماذا لو كانت هذه الأفكار يطلق لها العنان من دماغ طفل لم يتجاوز عمره سنوات معدودة، لتصبح تلك الأفكار ملازمة لنموه العمري والعقلي كظله، ولم تعد تفارقه حتى في صباه، لتتبلور الصورة لديه وهو في الخامسة عشر من عمره، بحيث ترسخت لديه فكرة أن يكون ذا شأن عظيم، يترك بصماته على العالم ويؤثّر فيه، كي يخلّده التاريخ يوماً، فانحصر تفكيره في هدف واحد، هو بناء شكل محسن ذاتياً من الذكاء الاصطناعي، يكون أذكى منه.
تنبأ عالم الكومبيوتر الألماني يورغن شميدهوبر، الذي حمل لقبي “أبوالذكاء الاصطناعي”، و”رائد التعلم العميق”، أستاذ الذكاء الاصطناعي في جامعة ديلا سفيزيرا إيطاليانا في لوغانو بسويسرا، بذكاء اصطناعي سوف يدير مصانع روبوتات في الفضاء، إذ قدم شميدهوبر في مؤتمر وايرد عام 2016، مستقبل الذكاء الاصطناعي بشكل يتجاوز مجرد الاستحواذ على الوظائف، قائلاً “في العام 2050، سيكون هناك تريليونات من معامل الروبوتات على حزام الكويكبات. وبعد بضعة ملايين من الأعوام سيقوم الذكاء الاصطناعي باستيطان المجرّة”.
وهذا ما يدفعنا لنتوقف هنا لنطرح السؤال الذي يفرضه علينا شيمدهوبر وهو، هل نحن فعلاً نعيش في سباق مع الزمن، ووصلنا إلى مرحلة يصعب فيها التمييز بين البشر والرجل الآلي، وكذلك بين روبوتات الدردشة أو المساعدين الرقميين والذكاء الاصطناعي، وهل نحن على أعتاب مرحلة تنذر بعواقب خطيرة على أعقاب عصر رقمي أم عصر روبوتات يهدد بزوال العالم؟
ثورة الذكاء
لقد أحدث ما كتبه شميدهوبر وفريقه من الكودات المبتكرة في تاريخ الذكاء الاصطناعي ثورة في التعلّم الآلي، الذي بات بين يدي مليارات المستخدمين على سطح الكرة الأرضية، ومنذ عام 1991 بدأت ما تسمّى بالشبكات العصبية للتعلم العميق تعمل في مختبره، لدرجة أخذت الشركات العامة وتطبيقاتها المختلفة تستخدم البرامج التي تم تطويرها في هذا المختبر.
من الأمثلة على هذه البرامج أنها عملت على تطوير التعرف على كلام أكثر من ملياري جهاز هاتف يعمل بنظام أندرويد، هذه القدرات والإمكانيات التطويرية الهائلة ساهمت في تحسين وضع غوغل وفيسبوك، وجعلت من الترجمة الفورية لديهما بوضع جيد، ويقوم فيسبوك، منذ ثلاثة أعوام، بترجمة أكثر من 4 مليارات كلمة يومياً أي ما يعادل 50 ألف كلمة في الثانية، ويتم استخدام خوارزمياتهما وتطبيقاتهما عبر مجموعة آبل، على ما يقارب أكثر من مليار جهاز من أيفون، وبحسب معلومات منشورة يرتفع ظل شميدهوبر وراء أمازون وألكسي إضافة إلى تطبيقات متعددة.
وقف شميدهوبر خلف تطوير فكرة “الذاكرة الطويلة – قصيرة الأجل”، إلى جانب قيامه بتنفيذ تقنية جديدة لخاصية التمييز الصوتي التي باتت تستخدم على نطاق واسع وكبير في تطبيقات غوغل، وخاصة على أجهزة الهواتف الذكية، وحتى عام 2014 كان شميدهوبر قد أسس شركة لغرض العمل على دمج الذكاء الاصطناعي في المجالات التجارية، مثل الاقتصاد والصناعات الثقيلة وكذلك السيارات ذاتية الحركة.
مصير الأيدي العاملة
فاز شميدهوبر والفريق العامل معه في عام 2011، بمسابقات الرؤية الكمبيوترية الرسمية من خلال الشبكات العصبية العميقة، ونشطوا في إطار الذكاء الاصطناعي العالمي رياضيا والتحسين الذاتي لحل المعضلات التي قد تواجه أولئك الذين يرغبون في تعلم نظريته في مختلف المجالات منها الإبداع والفن والموسيقى، إلى جانب نشره نظريته في المعلومات الخوارزمية والعوالم المتعددة في الفيزياء. من الصعب حصر ما قام به هذا الرجل في سبيل راحة البشرية، حيث تقوم أبحاثة في مجال الذكاء الاصطناعي بحل جملة من المشكلات التي يستحيل علينها حلها بتلك السهولة، والتحكم بما يدور في المحيط الفضائي حولنا. فنال خلال عمله الطويل عبر السنوات الماضية العديد من الجوائز لقاء ما أنجزه في مجال الذكاء الاصطناعي، ولا يمكن إغفال مساهماته الإبداعية في مجال التعلم العميق والشبكات العصبية.
وقد اثبتت دراسة حديثة، صدرت مؤخراً، أن الذكاء الاصطناعي سيساهم في تدعيم القدرة على إتاحة الفرصة وزيادتها أمام المزيد من الأيدي العاملة وتحقيق أرباح بالمليارات، على عكس ما كان يقال سابقاً من أن الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى الاستغناء عن الأيدي العاملة، وبالتالي خلق جيش من العاطلين عن العمل، وهو الأمر الذي أكده خبراء الاقتصاد الألماني على أن استخدام الذكاء الاصطناعي في مختلف مجالات الاقتصاد الألماني والصناعي منه على وجه الخصوص سيساهم في ارتفاع إجمالي الناتج القومي.
وكانت دراساته قد وصفت بالأولى من نوعها في حينه، في مجال الرياضيات والحوسبة البداية الرائدة والطموحة عن البرمجيات الخاصة بالذكاء الاصطناعي. أما تقنية الشبكات العصبية الاصطناعية عميقة التعلم التي قدمها في الكثير من أوراقه البحثية بالتعاون مع مجموعة من زملائه وهم أليكس غرافز وفيليكس جيرس، بتمويل من دافعي الضرائب الأوروبيين، فقد دفعت بالكثير من أغنى الشركات في العالم أمثال آبل وغوغل ومايكروسوفت وأمازون وغيرها إلى الاعتماد عليها، بعد أن تم تطويرها في ألمانيا وسويسرا.
ولكن ما هي هذه التقنية؟
الذاكرة الطويلة قصيرة الأجل تظهر في البداية فقيرة بالمعلومات، ولكنها تدريجياً تبدأ التعلم من خلال الخبرة، حيث ترتبط بـ14 مليار عصبونة وهي وحدة اتصال الخلية العصبية في الدماغ البشري مع 10 آلاف عصبونة أخرى في المتوسط، بحيث يقوم البعض منها بتغذية المعلومات والأخرى بالتحكم وإعطاء الأوامر للعضلات. وإلى جانب هذه التقنية هناك واحدة أخرى تسمى تقنية الشبكات العصبية الدورية الاصطناعية، وتتفوق على التقنية الأولى في كثرة التطبيقات.
انصب اهتمام شميدهوبر وفريق عمله المساعد له منذ تسعينات القرن الماضي على الذكاء الاصطناعي من دون الخضوع لإشراف اليد البشرية وتدخلها، وهي العملية التي عرفت بما يسمى “الفضول الاصطناعي”، الذي يسمح للآلة باختراع أهدافها وتجربتها لفهم كيفية عمل العالم وما يمكنها أن تقدمه. ومن خلال ذلك التطور سيكون بمقدور الذكاء الاصطناعي في غضون سنوات قليلة التعلم الذاتي ليصبح في مثل ذكاء بعض الحيوانات، وبالتالي سيكون لديه الفضول والإبداع والقدرة المستمرة على التعلّم لكي يضع الخطط ويستنبط الأسباب ويكون قادراً على تحليل مجموعة متنوعة من المشاكل وتحويلها إلى مشاكل أبسط قابلة للحل أو حتى إمكانية حلها. وفي ضوء ما تقدم يمكننا الاستنتاج من خلال طرح السؤال ومفاده: من يدري ربما لو وصلنا بمستوى الذكاء الاصطناعي إلى مستوى ذكاء القردة حينها سيكون من الممكن أن نصل إلى مستوى ذكاء الإنسان، بحسب شميدهوبر؟
حلم الخلود
ويبرز السؤال الآخر؛ هل سيتوقف فضول الذكاء الاصطناعي عند هذا الحد؟ يرى البعض من الباحثين أنه طالما سمحت حدود تكنولوجيا الكمبيوتر والفيزياء بالإبداع والتقدم فهي ستظل تخترع أهدافها الخاصة وسوف تحسّن من قدراتها، بحيث يصبح بمقدورها أن تغزوا الفضاء كون الظروف ومصادر بقاء الآلات أفضل بكثير من ظروف بقاء البشر. ولطالما أنّ بيننا مثل هذا الفيلسوف، شميدهوبر، فسيتحقق للبشر ما يأملون به ويأتي ذاك اليوم الذي سيكون بمقدور الآلة أن تساعدهم على البقاء خالدين أحياء في الوجود من خلال تحميل عقولهم على روبوتات، وهي الفكرة التي يقترحها كتّاب الخيال العلمي منذ الستينات. وقد أشار أحد الباحثين العاملين مع شميدهوبر إلى أنه، ومع الأمل في أن يتحقق حلم البشر بالبقاء خالدين، سيحتاج الدماغ البشري الذي يتم تحميله على الذكاء الاصطناعي إلى أن يتأقلم ويتطور لينافس البرامج الأخرى مما سيجعله يتحول إلى شيء مختلف تمامًا.
وأخيراً يمكن القول إن البشرية تبدو وكأنها على استعداد اليوم أكثر من ذي قبل لاتخاذ الخطوة التالية، وهي خطوة مماثلة لظهور الحياة نفسها منذ أكثر من أربعة مليارات سنة مضت. وكما قال أحد العلماء إن ما شهده الذكاء الاصطناعي من تطور على أيدي شميدهوبر فهذا أكثر من مجرّد ثورة صناعية أخرى، تلك التي شهدتها أوروبا في القرن الثامن عشر، بل هو شيء آخر كلياً قد يكون متجاوزاً للبشرية ذاتها.
صحيفة العرب