من الخلاصات المعرفية الكبرى لفلسفة التاريخ أن الفعالية التاريخية والحضارية للأمم تتحدد، أول ما تتحدد، بمدى تماسك وفاعلية وحيوية منظومة قيمها. وبغض النظر عن التراتبية المعيارية للقيم ضمن هذه المنظومة، فإن لقيمة الحرية مكانة محورية ضمنها؛ وهي المكانة التي يتحدد بها أصل الفعل التاريخي والحضاري وترتسم بها آفاقه وممكناته.
ومع أن الحرية تظل شديدة الارتباط عضويا ووظيفيا بباقي القيم، وبوجه خاص قيمتي العدل، والمساواة، إلا أنها تعد أكثر القيم صلة بتحقق وتفسير فعل التنمية بمفهومها الشامل، لدرجة أن مفكرا اقتصاديا من حجم “أمارتيا صن”، الحاصل على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية، بلور أطروحة علمية متكاملة بهذا الصدد صاغها في كتاب بعنوان “التنمية حرية”، وهو الكتاب الذي يدلل على مدى الارتباط الوثيق بين التنمية والحرية.. (وهو ما عرضنا له في حلقة سابقة)
وهو الارتباط الذي تعززه الأدبيات الفكرية المعاصرة، التي تنطلق من أن المسار التاريخي لتحقيق التنمية والتقدم، عبر التغلب على حالة التخبط والضعف وهدر الوقت، هو مسار استئناف مشروع النهضة العربية الإسلامية، الذي توقف أو كاد منذ أواسط القرن الماضي، استئنافا أكثر قوة وأشد تفهما لمقتضيات العقل والحداثة والمشاركة في المسار الحضاري الكوني، من منطلق أن مفتاح هذه النهضة الثانية إنما هو الحرية.
والحاصل أن هذا الربط بين منظومة القيم، التي تقع الحرية في قلبها، والتنمية الشاملة، بما هي تحقق تاريخي للنهضة، يجد أصوله الحديثة في الفكر النهضوي العربي، كما يجد حضوره في أدبيات الإصلاحية الإسلامية الحديثة، وبوجه خاص لدى علال الفاسي الذي اعتبره فهمي جدعان، بحق، “أدق وأعمق من أي مفكر مسلم آخر عالج مسألة الحرية وبرع في التنظير لها”.(المقدس والحرية وأبحاث ومقالات أخرى من أطياف الحداثة ومقاصد التحديث”، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2009، ص94.)
لقد شكل رهان النهضة في صلته العضوية بسؤال التنمية محور اهتمام الفاسي لدرجة أنه من اليسير قراءة مجمل مشروعه الفكري كبحث موصول عن مختلف المعوقات التي تحول دون تحقيق هذه النهضة، وسعي دائم للبحث عن الشروط اللازمة لانجازها؛ فكل “فكرة لا تعمل على توجيه الأمة صوب التطور والتقدم إلى الأمام هي، بالنسبة لصاحب “النقد الذاتي”، فكرة عقيمة يجب رفضها ومحاربتها”.
فبعد أن يعتبر أن من معوقات النهضة العربية الإسلامية ضمور الفاعلية التاريخية للأمة من خلال استشراء شتى مظاهر “العجز والكسل والتقليد” التي تمثل “أعظم مساس بكرامتنا الوطنية كأمة ذات تاريخ عقلي وحضارة روحية..”، يعود ليؤكد أن الحرية القائمة على موقف عقلي وفكري راسخ تعد شرطا أساسيا من شروط نهضة الأمة وتقدمها إذ “إن حياة بغير حرية لهي الموت المحض، وإن وجودا من غير فكر حر لهو العدم، وأن مدنية لا تقوم على التحرر والتبصر لهي الوحشية ولو كانت في أحدث طراز”.
إن الفاسي هاهنا، لا يتحدث عن الحياة والموت وعن الوجود والعدم بالمعنى الطبيعي المباشر، وإنما بالمعنى التاريخي والفلسفي، وإلا فإن الحياة في ظل العبودية موت، والوجود في ظل الجهل ظلام؛ فكما أن الانتقال من حالة الموت والموات إلى حالة الفاعلية والحياة لا تتحقق من غير حرية ومن غير اختيار وفعل حر، فإن الانتقال من العدم إلى الوجود لا يتم إلا بفكر حر. أما المدنية الحقيقية فلا قوام لها بغير تحرر متسلح بالحرية، وتبصر قائم على الفكر الحر.. ليغدو “طابع الفكر الحر طابعا إنسانيا لا تتحقق آدمية الإنسان بدونه”، ولا يتحقق تقدمه وتنميته إلا من خلاله.
كما أن الفاسي لا يتصور أية نهضة حضارية من غير استلهام لمثل أعلى من منطلق أن “الاعتقاد في الخالق والاعتداد به كمثال أعلى ضروري لنا إذا كنا نريد السير في الطريق الذي نرمي قطع مراحلها في طمأنينة وأمان.. والتجرد عن هذه “المثالية الصحيحة” معناه الانحطاط بالإنسان وبالشعوب إلى أسفل الدركات..” خاصة وأن “الذين بدلوا الجهود الجبارة ليقظة أوروبا وأمريكا لم يكونوا،خلافا للرأي الشائع، بعيدين عن الله ولا متجردين من مثاليته..”.
وتفسير ذلك، من وجهة نظره، أن “المثالية الإلهية وحدها هي التي يمكن أن تسيطر على سلوكنا وتراقب ضميرنا وتقلل من أغراضنا وأهوائنا (…) والتفكير بها هو الذي يجعلنا نعشق التقدم دائما والعمل باستمرار.. والتفكير بالمثال الإلهي هو الذي يربط مستقبلنا بحاضرنا وبماضينا القومي والإنساني”.