المجالات والمآلات
رابعا: المجالات العلمية لتطبيق نظريات ما بعد الإنسان.
إن انتعاش الحركة الفكرية ما بعد الإنسانية مرتبط بالتطورات التكنولوجية والعلمية الحالية، فهناك تسارع للاكتشافات والاختراعات المذهلة في جميع المجالات العلمية وخصوصا مجال الهندسة الوراثية والمعلوميات. وتحدث كرزويل في كتابه عصر الآلات الروحية عن التحولات التكنولوجية الكبرى التي ستعرفها الإنسانية في العقود المقبلة وقال بأنه “سيكون القرن الحادي والعشرين مختلفا، فسوف يستطيع الجنس البشري بمساعدة تكنولوجيا الكومبيترات التي ابتكرها حل مشكلات قديمة تدم الدهر، مثل الفقر، وربما الرغبة، وستكون لديه القدرة على تغيير الموت في مستقبل ما بعد الكائنات الحية. هل لدينا الطاقة النفسية لتلقي كل الأشياء الطيبة التي تنتظرنا؟ على الأرجح لا، وعلى أي حال ربما يتغير ذلك أيضا”[1].
إن تساؤل كرزويل مرتبط بالحيرة التي ستصيب الإنسان من جراء الطفرة العلمية والتكنولوجية، فالإنسان مقبل على عصر الرفاهية الشاملة، حيث كل شيء في خدمته.
1- المجال الطبي:
سيتطور المجال الطبي بشكل كبير، بحيث ستمكن الهندسة الوراثية حسب تقدير كرزويل[2] من القضاء على السرطان ومجموعة من الأمراض. إذ تنفق أموال كبيرة على الأبحاث والدراسات لاكتشاف طرق معالجة الخلايا المعطوبة. ويرى البروفسور كاكو بأن البشرية عرفت ثلاثة مراحل من الطب[3]. في المرحلة الأولى كان البحث منصبا على طرد الأرواح الخبيثة من الجسد، وتطور الأمر إلى اكتشاف الأعشاب القادرة على شفاء بعض الأمراض (وفي تحيز واضح لم يشر إلى الاكتشافات الطبية للحضارات غير الغربية ومن ذلك الحضارة العربية).
وفي مرحلة ثانية، بدأت في نظرة منذ الحرب العالمية الثانية تم اكتشاف المضادات الحيوية واللقاحات، مما ساهم في اختفاء مجموعة من الأمراض. ومكنت هذه المضادات الحيوية الأطباء من اكتساب سمعة طيبة، حيث ساعدتهم على معالجة الأمراض بشكل فعال وسريع، كما يقول صاحب كتاب (البكتيريا المسببة للأمراض). ويقول كاكو “ولحسن الحظ، فإننا ندخل الآن المرحلة الثالثة، وهي مرحلة الطب الجزيئي التي ربما كانت أكثرها إثارة وعمقا. ولأول مرة في التاريخ يكتشف كل مستوى من مسببات المرض بروتينا فبروتينا، وجزئيا فجزئيا، وذرة فذرة. وتماما مثل جنرال يقرأ بشغف خريطة دفاعات العدو، يمكن للعلماء اليوم أن يقرأوا الجينوم الكامل للجرثومة، ويحددوا النقاط الجزيئية الضعيفة في دفاعاتها. وكما يقول شبرفن نولاند من مدرسة الطب في جامعة ييل “لقد مر فن الاستشفاء القديم على مدى 20 عاما من التفاؤل المحدود والبسيط نسبيا لحقبة المضادات الحيوية، إلى الآفاق غير المحدودة على ما يبدو للعصر الجزيئي”[4].
وأشار كرزويل[5] إلى كون الطب الجزيئي، سيمكن من القضاء على أمراض عديدة ومنها أمراض القلب وغير ذلك. كما يمكن علاج الأمراض عن بعد، باستخدام الفحص البصري والسمعي واللمسي على بعد. واعتماد الكومبيوتر في التشخيص وتخزين المعلومات حول المريض واعتماد الآلة الذكية في الجراحة الدقيقة بكل أنواعها ومن ذلك جراحة الدماغ والقلب. ومن المعلوم أنه تجرى اليوم عمليات جراحية وتشخيصية للأمراض من خلال الربط عن طريق الأقمار الاصطناعية، كما بدأت التجارب الأولية في استعمال الكومبيوتر في الجراحة.
إن الوعود التي يقدمها الطب الجزيئي لا حدود لها وهي تتجاوز كل التصورات، لذلك فإن رواد ما بعد الإنسانية يعتقدون بأن الطب المستقبلي لن ينحصر في تغيير الأعضاء بل يمكن اكتشاف سر الحياة والقضاء على الشيخوخة والوصول إلى الخلود. وهناك حديث متواصل حول اكتشاف الدم الاصطناعي وتجاوز النقص الحاصل في مخزون الدم في المستشفيات.
فصناعة “الدم الاصطناعي” وإنتاجه لم تعد مجرد خيال او حلم بل أصبح حقيقة[6].
إن التطور الحاصل في العلوم الطبية نابع من رؤية محددة هي الكشف عن جميع الأسرار التي تمكن الإنسان من العيش بدون ألم وتحقيق السعادة الكاملة. ففي جميع المجالات المرتبطة بالجسم هناك تطور مدهش، فالإنسان المعاصر وخصوصا في الدول الغنية وبين الفئات المترفة، هناك عبادة الجسد، وهو المحافظة عليه وتجميله. وبالتالي فعلى مستوى الاستثمار في المجالات الصيدلية والطبية والجراحات والمعدات الطبية، فالسوق العالمي واعد ومحفز للشركات العالمية الكبرى. لهذا تساهم هذه الشركات العالمية المتعددة الجنسية في تمويل الأبحاث الأكثر جنونا وتطرفا، كما تدعم إعلاميا فكر ما بعد الإنسان، لخلق ثقافة جديدة أو لنقل ديانة جديدة هي عبادة الذات، والترويج لوهم الخلود. ولهذا فالطب الجزيئي سيسعى إلى تجاوز كل نقاش أخلاقي، للوصول إلى الاستنساخ البشري وتصميم الأطفال مستقبلا.
ويقول كاكو “بين الخصائص متعددة الجينات التي تتحكم فيها حفنة صغيرة من الجينات، هناك خصائص تحدد الشكل العام لجسم الإنسان، والأشكال البسيطة للتصرف. هل يمكن استخدام هذه الأساليب التقنية إنتاج “أطفال مصممين، بحيث يقرر الآباء جينات أطفالهم؟
إن العلم سيمتلك في المستقبل القريب، القدرة على تغيير جينات نسلنا، ما لم يمنع ذلك عن طريق القانون. ومنذ فترة أصبح من الممكن التحكم في طول أطفالنا عن طريق هرمونات نمو مهندسة جينيا، ويستتبع ذلك قريبا عدد من الخصائص الأخرى، التي يتحكم فيها بروتين واحد”[7].
وهناك حديث حول إمكانية التحكم في وزن الجسم، من خلال جينات البدانة، كما يمكن التحكم في جينات الشعر والقضاء على مرض الصلع، وكذلك جينات الوجه؛ بل التحكم في جينات السلوك، والقضاء مثلا على الكآبة والقلق والخوف. ولهذا فالقوى الكبرى تستثمر أموالا كبيرة في الأبحاث القادرة على تمكين الجنود من مقدرات عضوية ومهارات ذهنية وكفاءات نفسية ومن ذلك تجاوز الخوف وعدم الشعور بالتعب والإعياء، بل ربما برمجة البشر لأداء مهام بدون وعي منه !!
إن جولة سريعة في المواقع والمنتديات العالمية تبين مدى النقاش الصاخب حول مجمل هذه القضايا والتي ينقسم حولها المشاركون بين مؤيد ومعارض، بين فرح وحزين على المصير البشري.
2- مجال التغذية:
إذا كانت الصحة البشرية أساس لاستمرار فعالية وإنتاجية إنسان فإن التغذية هي أساس بقائه. ولذلك فجل الدراسات المستقبلية معنية باكتشاف المشاهد المستقبلية للأمن الغذائي الإنساني. ولهذا فرواد ما بعد الإنسانية يبشرون العالم بإمكانية صناعة غذاء لجميع البشرية. ولكن بأي ثمن؟
هناك مجموعة من الأبحاث والدراسات حول اكتشاف طرق جديدة لصناعة الغذاء من خلال التعديل الجيني. فيقول كاكو “إن التحكم في المخزون الجيني للنباتات والحيوانات لخلق أنواع حية جديدة ليس بالشيء الجديد، لقد لعب البشر بجينات الأنواع الأخرى لأكثر من 10 آلاف سنة، خالقين العديد من النباتات والحيوانات، التي نراها حولنا، ولكن بينما نمتلك القدرة على التحكم في جينوم أشكال الحياة الأخرى، فقد تعلمنا من تهجين النباتات والحيوانات أنه قد يكون لهذا تأثيرات لا يمكن التنبؤ بها. لقد اعتبر تاريخيا أن التحكم الجيني في النباتات لخلق محاصيل غذائية جديدة مفيد جدا..”[8] ولكن التلاعب الجيني لإنتاج الغذاء له من المخاطر ما لا يحصى، فهو مهدد بمضاعفات أخرى غير محتملة.
وهناك أبحاث حول نباتات معدلة وراثيا، إذ “تستطيع النباتات المهندسة وراثيا الآن، أن تنتج مبيداتها الموجودة بشكل طبيعي. مثلا، وتنتج بكتيريا bacillurs Huringiensis والتي تدعى عادة BT، بروتينا يقتل الكثير من الحشرات، مثل دودة القطن ودودة التبغ، وتستطيع أن نضع جين هذه البكتيريا داخل المحاصيل، بحيث تستطيع أن تنتج من تلقاء ذاتها مبيدات بشكل رئيسي. وتستطيع النباتات القطنية الآن أن تحارب دودة القطن ودودة التبغ، بينما تستطيع الذرة أن تقتل حشرة حفار الذرة الأوروبية”[9].
ويتحدث الباحث كاكو عن أنواع آخرى من النباتات المقاومة للمرض، وأخرى مقاومة لمزيلات العشب، وإنتاج نباتات منتجة للأدوية المفيدة. كما أن هناك حديث عن استغلال البحار لإنتاج غذاء وافر. لكن هناك مقاومة كبيرة للمنتجات المعدلة وراثيا، لأن مخاطرها كثيرة، ولذلك هناك مطالب متعددة لمعرفة المستهلك ماذا يستهلك؟
وهناك مجموعة من المختبرات المروجة لنماذج من المأكولات والتي هي عبارة عن عقاقير تختزل بروتينات وأوميغا3 وغير ذلك، ويسوق لها باعتبارها بديلا عن الغذاء التقليدي والطبيعي.
ويبدو أن التضارب الحاصل بين العلماء حول المخاطر الصحية للغذاء المعدل وراثيا، لكن الشركات العالمية تضغط عبر وسائل الاعلام للترويج لفكرة سلامة الغذاء المعدل وراثيا، وأنه الحل الوحيد لمواجهة المجاعة العالمية وشح الموارد الطبيعية وتقلص الأراضي الفلاحية. وتتعرض مجلة Nature و Newscientist وغيرهما من المجلات العلمية المرموقة، لهاته القضايا بالتفصيل. وساهم الشريط [10] (Food,inc) في فضح التلاعب الجيني في الفلاحة الأمريكية، وأبرز دور الشركات الكبرى في توجيه الأبحاث الزراعية لصالح منظورها غير الأخلاقي وبالتالي تحالف اللوبي الفلاحي والسياسي وهيمنة شركات معينة على مجال إنتاج الحبوب والغذاء.
3- مجال الإنسان الآلي:
هو المجال المفضل بامتياز لدى رواد ما بعد الإنسانية، ذلك أن الآلات هي مستقبل العالم. فإذا كان الإنسان في القرون الماضية وإلى اليوم يعتمد على العبيد البشر في إنجاز المهام اليومية، السهلة والشاقة، فإن الآلات هي عبيد اليوم وغدا ستكون الآلات ذكية ومطيعة وناجعة وفعالة ولكن في المستقبل البعيد سيكون الإنسان هو العبد في خدمة الآلات الذكية التي ستتجاوز الذكاء البشري.
إن التقدم الحاصل في مجال الإنسان الآلي، يبشر بإمكانية الوصول إلى عالم تسيره الآلات الذكية. بحيث يقول “هلم بنوا”[11] بأن الروبوت أو الإنسان الآلي في المستقبل القريب، سيتخصص في مجالات معينة، في انتظار جيل آخر يقوم بكل شيء. وهكذا يتحدث عن إنسان آلي قادر على تسيير محطات نووية، وآخر متخصص في المجالات الصناعية، وآخر في الأبحاث الفضائية، وآخر محارب يقوم بتعويض الإنسان في الحروب المستقبلية، وآخر إطفائي، بل إنسان آلي يقوم بتلبية حاجيات جنسية!! [12].
ويرى بأن الإنسان الآلي، ينظر إليه في الغرب كشريك في العمل وليس نسخة بشرية[13]. بينما رواد ما بعد الإنسان ينظرون إليه كامتداد للذات البشرية ومتجاوزا لها في المستقبل.
والتفكير المستقبلي منصب على ابتكار نماذج من الإنسان الآلي، قادرة على الحديث والحوار وتعليم الإنسان، بل الانفعال الوجداني والإحساس !! فمن “المعقول الافتراض أنه قد يكون لدينا بحلول 2050 اجهزة إنسان آلي يمكنها أن تتواصل مع البشر بذكاء، وآلات لها عواطف بدائية وقدرة على تمييز الحديث، وتمتلك الحس والذوق السليمين. وبعبارات أخرى ستكون قادرين على الكلام معها، والحصول على محادثات شائقة إلى حد ما. ومن أجل العمل في مجتمع حديث، فمن الضروري أن يكون للإنسان الآلي عواطف ومقدار معين من التمييز، حتى يتمكن البشر من التواصل معه بسهولة. وقد يزيد هذا من درجة “التعلق بالإنسان الآلي”[14].
إن الأبحاث الجارية حول الذكاء الاصطناعي ودمج البيوتكنولوجيا والحوسبة في إنتاج الإنسان الآلي، ستخلق ثورة ذات أبعاد متعددة لا يستهان بها.
4- مجال الأشياء الذكية والاتصالات المتطورة:
إن تكنولوجيا النانو وتطور الحوسبة وصناعة الحواسب الذكية، ستمكن من تغيير الأشياء التي تحيط بالإنسان. فهناك ابحاث حول ملابس مقاومة لجميع أشكال المناخ، وسيارات بيئية، وقطارات الدفع المغناطيسي ومنازل ذكية قادرة على تدبير امور التدفئة وغير ذلك. وتلفاز متعدد الوظائف وثلاجة قادرة على التسوق بنفسها من خلال معرفتها لحاجيات صاحبها وطلب البضائع من السوق[15].
كما سيمكن الإنسان من تصميم مدن منسجمة مع المحيط البيئي لكل منطقة وخصوصيتها، وتغير التمثل البشري الحالي للمكان. وشراء الحاجيات عن طريق الجيل الذكي للهواتف اعتمادا على تكنولوجيا[16] (NFC) (Near Field Communication).
وهناك استعمالات كثيرة وغير محدودة للأشياء اليومية ذات المقدرة الذكية والتواصلية مع الحواسب والانترنيت.
كما ستمكن تكنولوجيا النانو من ابتكار أنواع جديدة من الزجاج غير القابل للانكسار ومواد صلبة ومرنة وأدوات متناهية في الصغر، قابلة للتوظيف في عدة مجالات ومن ذلك المجال الطبي.
وقد أطلقت مؤخرا جوجل نظارات ذكية وكذلك شركة سوني، وهي نظارات تمكن صاحبها من رؤية بث مباشر كما لو كان المشاهد يعيشه داخله[17]. كما طورت شركة سامسونج الجيل الخامس من تقنية الاتصالات، التي تسوق في حدود 2020 كما هناك تطور مذهل في مجال الواقع الافتراضي واستعمالاته المتعددة في العلوم والمجالات العسكرية وغيرها. كما تطورت ألعاب الفيديو بشكل كبير من شأنه التأثير على نفسية اللاعبين.
ويعرف مجال الانترنيت تطورا ملحوظا، وبحكم ولوج الحكومات إلى مجال الحكومة الإلكترونية، فهناك حرب الكترونية بين الدول والأشخاص والمنظمات. وتكنولوجيا إنتاج البرامج وأنظمة الحماية وخرق الأنظمة، تجعل من بيئة الانترنيت مفعمة بالصراع والتجسس والقرصنة. كما يعرف قطاع الطباعة تطورا كبيرا، إذ أصبحت الطباعة ذات الأبعاد الثلاثية ممكنة وقابلة للانتشار وبأسعار معقولة.
كما تطورت تقنية الماسحات الضوئية المتنقلة، وكاميرات التصوير، وتخزين المعلومات في أقراص جديدة بتقنية[18] SSD.
كما تطورت تقنيات التعليم عن بعد، ولها آفاق كبيرة، بحيث يمكن الدخول إلى عصر مجانية التعليم عالميا أوعلى الأقل بأسعار معقولة في جميع الميادين. ومن المعلوم أن الجامعات العالمية الكبرى، تتنافس الآن لطرح برامجها التعليمية في الانترنيت مجانا، بينما الحصول على الشواهد يتطلب أداء الرسوم، لكن في المستقبل القريب، سيكون بمقدور الأشخاص الاستناد إلى برامج تعليمية متطورة مثل اللغات والعلوم الأخرى، وبرامج متطورة للترجمة الفورية. كما أن الكتاب الرقمي في انتشار مستمر. وسيعرف المستقبل القريب الكتاب الرقمي التفاعلي. وسيتم تسويق أجهزة قراءة الكتب الرقمية بها تقنية الحبر الإلكتروني بالألوان، بعدما أصدرت الأمازون أجهزة بالحبر الإلكتروني التقليدي باللونين الأبيض والأسود.
وعلى العموم هناك اكتشافات كثيرة في مجالات متعددة، مرتبطة بالحياة اليومية للناس، في الصحة والنقل والملابس والأجهزة المنزلية والبرامج والألعاب والإعلام وغير ذلك. وهذه البيئة المليئة بالتجديد التكنولوجي، ستمكن الإنسان من تغيير تمثله لنفسه وللعالم. كما ان رواد ما بعد الإنسان، يعتبرون ذلك بداية للتحول التكنولوجي المتسارع، الذي سيقدم الإنسان في عصر التفرد.
خامسا: مآلات الانسانية في ظل الوضع التكنولوجي الفائق.
من المعلوم أن خطاب الحركة ما بعد الإنسانية لازال في بداياته، ولكنه ينتشر بين جيل من الشباب الباحثين المنبهرين بالعلوم والتكنولوجيا، وخصوصا في أوساط المنفصلين عن الدين، والمعتقدين بإمكانية اكتشاف سر الحياة والخلود. والنقاش الاخلاقي حول التكنولوجيا وتطبيقاتها المتعددة لازال مستمرا. لكن واقعية ونفعية الشركات الكبرى تهزأ من ذلك، وتنظر إلى المستقبل من وجهة ربحية صرفة.
لقد ساهم فكر الحداثة في تنحية الدين، وجعل الإنسان في المركز وصاحب القرار في الكون. فالحداثة تؤمن بأن الإنسان وحده قادر على تدبير أموره وشؤونه وليس في حاجة إلى الدين أو الله، للسير في الوجود. ولهذا اتجه الفكر الحداثي إلى تأليه العقل الإنساني، ورفعه إلى مرتبة عليا والوثوق به.
وإذا كانت فلسفة الأنوار، قد تأسست على مبدأ تحرير الإنسان من كل أصناف الاستعباد. وبالتالي جعلت العقل مطية للتحرر، فقد تحولت هذه الأداة إلى وسيلة فظيعة لممارسة القمع والاضطهاد.. وقد فضح هوركهايمر[19] انحطاط العقل الموضوعي إلى عقل أداتي، أي انتقاله من رؤية عقلانية للعالم إلى نشاط تقني خالص أصبحت معه العقلانية مجرد خادمة للحاجات، سواء كانت حاجات الديكتاتورية، أم حاجات المستهلكين الذين لم يعودوا خاضعين للعقل ولمبادئه الخاصة بضبط النظامين الاجتماعي والطبيعي على السواء. ولهذا أطلقت على الحداثة اسم “كسوف العقل” من قبل هوركهايمر وادونرنو وجميع من قد تأثر بهم حتى خارج حدود مدرسة فرانكفورت. وهذا النمط في الرؤية هو امتداد لمخاوف ماكس قيبر أكبر المتصدين لتحليل الحداثة[20]. لقد انقلبت وظيفة العقل الأنواري من التحرير إلى ممارسة التكبيل. وقام فلاسفة فكر الاختلاف[21]، بتعرية الحداثة وإدانة سلوك المراقبة والقمع الذي تمارسه عبر كافة مؤسساتها بواسطة جبروت النظام المعرفي فالمؤسسات الجامعية تحولت إلى مجال تستغل فيه المعرفة لتقوية السلطة والتحكم، كما بين جملة من الباحثين إفراز الحداثة لأنظمة شمولية كالنازلة والفاشية وهي أنظمة استغلت التقنية لتحقيق أغراضها التوسعية.
والتقنية التي هي نتاج التوظيف المكثف لمعطيات ونتائج العلوم وتسخيرها للإنتاج الاقتصادي، فبالرغم من كونها، قد ابتكرت وساءل جديدة وسريعة للاتصال وقربت المسافات وساهمت كذلك في تحسين الإنتاج وتراكم الثروات، فإنها داست على إنسانية الفرد وصارت أداة للسيطرة والتدمير.
ورغم اختلاف مشارب وتوجهات الباحثين في الغرب فإنهم أدانوا بشاعة التقنية لغياب التوجيه الأخلاقي في توظيفها. فهوكايمر وماركوز وإيريك فروم وبلوخ وجاك ايلول وغيرهم، تحدثوا عن انحطاط القيم واستلاب الفرد في المجتمع التقنوقراطي، وتحدث جورج فيردمان عن المشاكل النفسية لنظام الآلة في الصناعة حيث ينعدم التوازن النفسي والروحي لدى الفرد.
ولاحظ دانيال بل، بأن الإنتاج الضخم والاستهلاك المفرط كانا وراء تكريس نمط من العيش القائم على مبدأ اللذة الشيء الذي أدى إلى تدمير القيم البروتستانتية. كما بين ليوتار بأن القرن الثاني عشر هو عصر اكتشاف لمعادلة لا تكنولوجيا بدون ثروة ولا ثروة بدون تكنولوجيا، لذا تم اقتناء الأدوات والعلماء، لا من أجل الوصول إلى الحقيقة وإنما لتحقيق السلطة. وتزداد بشاعة السلطة مع بروز المجتمع الإعلامي” الذي يجسد هيمنة التكنولوجيا الرفيعة للاتصالات حيث يتم التلاعب بالعقول وتزييف الحقائق وترويج ثقافة الخلاعة، وتحدث جملة من المفكرين عن ذلك مثل توفلر وليوتار وبودريار وجيمسون وشيلر وهابرماس وغيرهم.
إن هذا النقاش المتنامي والذي يشترك فيه جل علماء وفلاسفة ورجال الدين في العالم، هو القضية الأساسية للعصر الحالي. لكن ما هو الاتجاه الذي ستكون له الغلبة، هل الاتجاه الداعي إلى التحرر من “دوغمائية” الأديان والاستمرار في التقدم ومعانقة التكنولوجيا لتحقيق السعادة الإنسانية؟ أم الاتجاه الداعي إلى تحكيم العقل والأخلاق والدين؟
لهذا يمكن صياغة مشهدين للوضع الإنساني في سياق التكنولوجيا الرفيعة:
1- تكنولوجيا بدون إيمان ولا أخلاق / حضارة ما بعد الإنسان.
هو المشهد المستقبلي الذي تتحكم فيه الشركات العالمية الكبرى وتفرض رؤيتها للتكنولوجيا واستعمالها المكثف بدون الخضوع لأي محدد أخلاقي. كما أن الدول والحكومات والمنظمات ستتنافس لامتلاك تكنولوجيا المستقبل، باعتبار أن ذلك محدد أساسي في الصراع الجيوسياسي العالمي. كما أن الحروب المستقبلية تفترض امتلاك القدرة على تحليل المعلومات بدقة عالية، ومعرفة مصادر التهديد المحتملة وبالتالي القدرة على التفوق على العدو في بيئات افتراضية وواقعية بتقنية غير مسبوقة.
إن هذا المشهد لن يكون فيه احتكام للأخلاق أو الدين، فالقوى الصاعدة، ستحاول بناء نظام محلي أو إقليمي أو عالمي شمولي، يعتمد حكامة رقمية رفيعة تراقب كل شيء وتتجسس على كل شيء وتوجه كل شيء وهناك توقع بأن تكون تكنولوجيا الانصهار مع الإنسان قادرة على إدارة البشرية كالغنم أو لنقل كائنات مبرمجة مطيعة.
كما يتضمن المشهد دخول العالم في فوضى وصراع وتقاتل وتناحر، لا نهاية له. وهناك من يتوقع على المدى البعيد ومن ذلك كرزويل، تسليم البشرية مقاليد الحكم إلى الآلات الذكية المتفوقة على الإنسان، أي ما بعد الإنسان.
ويقول أحد رواد الحركة ما بعد الإنسانية وهو خوسيه لويس كورديرو[22] “وربما سيتمكن العلم في النهاية من تحقيق دور الدين، ويجعل منا ما يشبه الآلهة. ونحن على سبيل المثال نقوم الآن باختلاق أول أنواع الذكاء الاصطناعي وحتى الحياة الاصطناعية. وربما سنتجاوز محدداتنا البيولوجية الحالية وسنترك وراءنا أجسامنا المبنية من الكربون، وقد تكون مخلوقات المستقبل مبنية على أجسام من السيليكون أو أي مادة أخرى أكثر غرابة. أما أدمغة الإنسان فربما يمكن نقل المعلومات إليها وتحويلها لوعينا، نظريا، نهاية محدودة أو ضرورية. وذلك بحد ذاته سيكون نوعا من الخلود” !! وهذا وهم في وهم.
2- تكنولوجيا مقرونة بالإيمان والأخلاق / حضارة “إنسانية” جديدة.
إذا سعت الدول والمنظمات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني العالمي إلى تقنين التكنولوجيا ووضع قواعد قانونية صارمة لمراقبة المختبرات والأبحاث وتوجيهها، فإن ذلك من شأنه التخفيف من التطرف التقني وبالتالي السير نحو عصر جديد من الحضارة، يجمع بين الرقي العمراني بدلالته الشاملة والوعي الأخلاقي لمحدودية الإنسان ومخاطر تحدي الخالق.
د. خالد ميار الإدريسي
رئيس تحرير مجلة مآلات، فصلية محكمة تعنى بالدراسات الاستشرافية
الهوامش:
[www.cinetrafic.fr -[1: موقع يتضمن لائحة مختلق افلام الخيال العلمي.
[2]- كرزويل: عصر الآلات الروحية مرجع سابق، ص: 16
[3]- نفسه: 262 – 263.
[4]- كاكو: رؤى مستقبلية مرجع سابق، ص: 212.
[5]- نفسه، ص: 213.
[6]- كرزويل: عصر الآلات ص: 264.
[7]- Avril 2013, pp 28-29.Sandrine Cabut : sang universel, du mythe à la réalité. In Le monde Hons série
[8]- كاكو، مرجع سابق، ص: 269.
[9]- نفسه، ص: 286.
[10]- نفسه، ص: 291.
[11]- انظر الشريط الوثائقي الهام الذي يتحدث عن رهانات التغذية في أمريكا الشمالية ودور اللولبيات:
Future Helme : A Film by Robert Kennu : Food, inc. Participand Media. 2010.
[12]- Helm Benoit : « Répliquant à chacun son robot » in Le monde Hors-série, Avril 2013, p 17 – 17.
[13]- op.cit, p : 15.
[14]- op. cit, p : 14.
[15]- كاكو مرجع سابق، ص: 123.
[16]- Le monde Hors-série, Avril 2013, pp : 38 – 39.
[17]- Ibid, p : 80.
[18]- Ibid, p : 38 – 40.
[19]- تورين. نقد الحداثة، مرجع سابق، ص: 172.
[20]- نفسه، ص: 152.
[21]- نور الدين افاية: الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة، افريقيا الشرق، 1992 ص: 27 – 45.
[22]- خوسيه كورديرو: الدين والعلم والخلود، مرجع سابق، ص: 162.