يكتسي موضوع التعايش والعيش المشترك في صلته بتدبير واقع التعددية الثقافية سواء في إطار الجماعات الفرعية المختلفة، أو ضمن الجماعة الوطنية الواحدة، أو في سياق دولي إقليمي وعالمي أوسع، أهمية خاصة، وراهنية لا غبار عليها لجملة من الاعتبارات:
أولها؛ أجواء التوتر وغياب الثقة الذي كرسته إيديولوجيا “صراع الحضارات”، وإيديولوجيا “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”.. وما ارتبط بذلك من اختلال عميق طال بنية النظام الدولي والعلاقات الدولية بفعل تداعيات انهيار المعسكر الشرقي بزعامة الإتحاد السوفياتي، وهي الآثار التي سرعان ما عملت على تغذيتها التناقضات المتولدة عن ظاهرة العولمة التي ارتبطت، في وعي الكثيرين، بالأمركة والهيمنة والتنميط. وقد استفحل الوضع أكثر، دوليا، بفعل انفجار الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، وإقليميا بسيادة حالة من التوتر وعدم الاستقرار الخطير الذي شهدته العديد من الدول العربية.
وثانيها؛ صراع التأويلات الذي اشتدت حدته حول حقيقة النص الديني؛ قرآنا وسنة، سعيا إلى امتلاكه؛ ما بين تأويل سلفي يتباين بدوره ما بين تأويل نصي ظاهري، وتأويل علمي منهجي، وتأويل تكفيري جهادي، وتأويل توفيقي تعتمده الحركات الإسلامية المشاركة في السلطة أو الساعية إليها، وتأويل عرفاني مع الحركات والطرق الصوفية..بحيث أن كل تأويل من هذه التأويلات بات يشير ويبشر، في الغالب الأعم، بنمط مخصوص للنظام الاجتماعي والاجتماع السياسي ينافي غيره من الأنظمة.
وثالثها: الانشطار الإيديولوجي الإسلامي العلماني العميق على مستوى مرجعيات النخب، واختياراتها السياسية والإصلاحية..
الأمر الذي بات يقتضي، أكثر من أي وقت مضى، العمل على اعتماد مقاربة علمية موضوعية للشأن المعرفي، ومقاربة ديمقراطية تشاركية وتوافقية للشأن السياسي وتدبير الشأن العام للجماعة الوطنية بحثا عن شكل من أشكال الكتلة التاريخية أو التيار الأساسي لمواجهة حالة الانقسام والاستقطاب والتشظي الاجتماعي والاحتراب الأيديولوجي، وكذا مواجهة المعضلات والإشكالات التنموية المركبة التي باتت تشكو منها مجتمعاتنا..
كما أن موضوع “العيش المشترك” ينهض على فعل جماعي يراهن من جهة أولى، على تدبير واقع ندرة الموارد المادية والرمزية ومحدوديتها، وهنا تنطرح مشكلة توزيع الموارد وعدالة هذا التوزيع. كما يراهن من جهة ثانية، على تدبير وتكييف واقع التنوع والاختلاف الديني، والثقافي، والسياسي، والطائفي، والمذهبي، والعرقي، والأقاليمي..
ذلك أن سياق العيش المشترك يتراوح ما بين ظروف الرخاء والوفرة والغنى، وهنا يكون العيش المشترك متحصلا بطريقة شبه تلقائية لا تستوجب كبير جهد وتدبير، وبين ظروف الندرة والمسغبة، حيث تستشري الأزمة، ويخيم واقع عدم الاستقرار، وهنا يحتاج العيش المشترك إلى الكثير من الجهد والعنت..
أما أبعاد العيش المشترك فتتحدد أولا من الوجهة المجالية؛ مابين إطار وطني داخلي ضمن مكونات الجماعة الوطنية، وهو البعد الذي يتحدد بنظريات العقد الاجتماعي والسياسي، وبالطبيعة المدنية للإنسان وحاجته إلى غيره. وإطار دولي خارجي ضمن الجماعة الدولية..
كما تتحدد ثانيا من الوجهة المرجعية؛ ما بين مرجعية قرآنية إسلامية تقوم على منظومة قيم؛ التعارف، والاختلاف، والمساواة، والحرية، والعدالة، والكرامة الإنسانية، والتعاون والتدافع. ومرجعية أممية تعبر عن الإرادة الدولية للمجتمع الإنساني، مع ما قد يعتري هذه الإرادة من خضوع لمنطق موازين القوة التاريخية الفعلية، ولمنطق الازدواجية والكيل بأكثر من مكيال..
ومع ذلك فلا يتعين افتراض التعارض الكلي بين المرجعية الأممية الكونية، وهي مرجعية أسهمت فيها كل الحضارات التاريخية، وكل الثقافات القائمة بنصيب. فالحضارة الإنسانية الواحدة والمشتركة لا يمكن تصورها إلا بفضل تعدد الثقافات، وهو تعدد يقتضي التعايش والحوار بدل التنابذ والصراع. على أن يكون هذا الحوار بين جماعات ومجتمعات إنسانية من لحم ودم؛ لها مشاعر مشتركة، وبناء عاطفي وذهني إنساني مشترك.. وليس حوارا بين كيانات حضارية وثقافية مغلقة.
فالعيش المشترك، انسجاما مع ما سلف، يرتكز فضلا عن البنية التعاقدية القانونية الدستورية في صلتها العضوية بالبنية المؤسسية، على منظومة متكاملة للقيم..
وكما أن للعيش المشترك مستلزماته في إطار الجماعة الوطنية، فإن له كذلك، مقتضيات في إطار العلاقات الدولية. ومن أهم الأطر المرجعية الدولية التي تؤسس لمفهوم العيش المشترك تقرير لجنة “إدارة شؤون المجتمع العالمي” التي اتخذت من شعار “جيران في عالم واحد” إطاراً ناظما لعملها، كما اتخذت من ميثاق الأمم المتحدة إطاراً مرجعيا لتصوراتها..
وهو الإطار المرجعي الذي أولى أهمية قصوى لتحقيق مقصدي السلم والأمن الدوليين، وما يتصل بهما من أهداف وغايات فرعية، وفي سبيل هذه الغايات جاء في الميثاق: “استقر عزمنا على أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش في سلام وحسن جوار.”