يجري حاليًّا – لأول مرة – اختبار غَرسات دماغية في البشر، تولِّد نبضات كهربية مضبوطة على نحو يتناسب مع مشاعر الشخص وسلوكه. فقد بدأ فريقان – تموِّلهما الذراع البحثية للجيش الأمريكي، وهي وكالة مشروعات البحوث المتقدمة التابعة لوزارة الدفاع (DARPA) – تجارب أولية على غرسات دماغية بنظام “الحلقة المغلقة”، تَستخدِم خوارزميات للكشف عن الأنماط المرتبطة باضطرابات المزاج. ويمكن لهذه الأجهزة أن تصدم الدماغ؛ فتعيده إلى الحالة الصحية، دون تدخُّل من الطبيب.
يمكن للبحث، الذي قُدِم في شهر نوفمبر الماضي في اجتماع جمعية علم الأعصاب في واشنطن العاصمة، أن يقدّم في النهاية طريقة لعلاج الأمراض العقلية المتفاقمة، التي تقاوم العلاجات الحالية، لكنه يثير أيضًا مخاوف أخلاقية شائكة، خاصةً أن التقنية المقترحة يمكن أن تتيح للباحثين درجة من الاطلاع على المشاعر الداخلية للشخص فور شعوره بها.
تُعرَف الطريقة العامة المتمثّلة في استخدام جهاز يُغرَس في المخ ليبثّ نبضات كهربية تغيِّر النشاط العصبي باسم “التحفيز العميق للدماغ”. وتُستخدَم هذه الطريقة لعلاج اضطرابات الحركة، لكنها كانت أقل نجاحًا في علاج اضطرابات المزاج. فقد أشارت أدلة مبكرة إلى أن التحفيز المستمر لمناطق معينة في الدماغ يمكن أن يخفف من الاكتئاب المزمن، لكن دراسة كبرى شملت 90 شخصًا مصابًا بالاكتئاب لم تُسجّل أي تحسن بعد عام من التحفيز (P. E. Holtzheimer et al. Lancet Psychiatry 4, 839-849; 2017).
يقول العلماء الذين يقفون وراء المشروعين اللذين تمولهما وكالة DARBA إن عملهم قد ينجح فيما فشلت فيه المحاولات السابقة، لأنهم صمموا غرساتهم الدماغية لعلاج الأمراض العقلية خصيصًا، وليتم تشغيلها فقط عند الحاجة. ويقول إدوارد تشانج، عالِم الأعصاب في جامعة كاليفورنيا بسان فرانسيسكو، الذي يقود أحد المشروعين البحثيين: “لقد عرفنا الكثير عن أوجه القصور في تقنيتنا الحالية”.
تدعم وكالة DARBA فريق تشانج، وفريقًا آخر في مستشفى ماساتشوستس العام في بوسطن؛ بهدف التوصل في النهاية إلى علاج للجنود والمحاربين القدامى الذين يعانون من الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة. ويأمل كل فريق في أن يصمم نظامًا من الإلكترودات المغروسة لتعقُّب النشاط في أنحاء الدماغ، بينما يجري تحفيزه. ويطوّر الفريقان تقنياتهما من خلال تجارب على أشخاص مصابين بالصرع، لديهم بالفعل في أدمغتهم إلكترودات مغروسة لتعقّب نوبات الصرع التي يعانون منها.
في اجتماع جمعية علم الأعصاب، قدّم مهندس الكهرباء أوميد ساني – الذي يعمل في جامعة كاليفورنيا الجنوبية في لوس أنجيليس، ويعمل ضمن فريق تشانج – أول خريطة لكيفية تشفير المزاج في المخ على مدار الوقت. عمل ساني وزملاؤه على ستة أشخاص، لديهم إلكترودات مغروسة في أدمغتهم بسبب الصرع، وتابعوا النشاط الدماغي لهم، وأمزجتهم على مدار فترة تراوحت من أسبوع إلى ثلاثة أسابيع. وبمقارنة النوعين من المعلومات، تمكّن الباحثون من إنشاء خوارزمية من أجل “فكّ شفرة” تغيُّر مزاج الشخص. وقد ظهرت أنماط عامة، تحديدًا في مناطق الدماغ المرتبطة بالمزاج.
يقول ساني إن تشانج وأفراد فريقه جاهزون لاختبار نظامهم الجديد ذي الحلقة المغلقة الواحدة في أحد الأشخاص. ويضيف تشانج قائلًا إن الفريق اختبر بالفعل بعض تحفيز الحلقة المغلقة في البشر، لكنه امتنع عن إعطاء أي تفاصيل، لأن العمل لا يزال في مراحله الأولية.
يتبّع فريق مستشفى ماساتشوستس العام طريقة مختلفة؛ فبدلًا من استكشاف مزاج أو مرض عقلي محدد، يريد الباحثون رسم خريطة لنشاط الدماغ المرتبط بالسلوكيات، التي تظهر في اضطرابات متعددة، مثل صعوبات التركيز والتعاطف. وقدّم أعضاء الفريق في مؤتمر جمعية علم الأعصاب تقريرًا عن اختبارات أجروها للخوارزميات التي تحفز الدماغ عند تشتت انتباه شخص ما عن مهمة محددة، مثل مطابقة صور الأرقام، أو التعرّف على المشاعر من الوجوه.
ووجد الباحثون أن بثّ نبضات كهربية في مناطق الدماغ التي تلعب دورًا في صنع القرار والعاطفة قد أدى إلى تحسّن أداء المشاركين تحسّنًا ملحوظًا. ورسم أعضاء الفريق أيضًا خريطة للنشاط الدماغي الذي حدث عندما بدأ شخص ما في الإخفاق أو البطء في تأدية مهمة محددة، بسبب كثرة النسيان، أو تشتت الذهن، وعالجوا ذلك عن طريق تحفيز الدماغ. ويبدأ الباحثون حاليًا في اختبار الخوارزميات التي تَستخدِم أنماطًا بعينها من نشاط الدماغ كوسيلة لتحفيز الدماغ تلقائيًّا.
يأمل وين جودمان – وهو طبيب نفسي في كلية بايلور للطب في هيوستون بولاية تكساس – أن يصبح تحفيز الحلقة المغلقة علاجًا عمليًّا طويل المدى لاضطرابات المزاج. ويرجع ذلك جزئيًّا إلى كَوْن أحدث جيل مستخدم من الخوارزميات يتسم بدرجة أكبر من التخصيص الشخصي، والاعتماد على الإشارات الفسيولوجية، بدلًا من تقييم الطبيب. ويقول جولدمان، الذي يوشك على بدء تجربة صغيرة حول استخدام تحفيز الحلقة المغلقة لعلاج اضطراب الوسواس القهري: “يتحتم عليك أن تُجْرِي الكثير من الضبط؛ لتحصل على نتيجة صحيحة”.يتمثّل أحد التحديات التي تتم مواجهتها عند تحفيز مناطق الدماغ المرتبطة بالمزاج، حسبما يقول جولدمان، في إمكانية خلق سعادة مفرطة تطغى على جميع المشاعر الأخرى. وتبرز اعتبارات أخلاقية أخرى هنا، لأن الخوارزميات المستخدَمة في تحفيز الحلقة المغلقة يمكن أن تُفصِح للباحثين عن مزاج الشخص إلى درجة تتجاوز ما قد يمكن رؤيته من خلال السلوك أو تعبيرات الوجه. ويقول أليك ويدج، وهو طبيب نفسي، والمدير الهندسي لفريق مستشفى ماساتشوستس العام: “سنتمكن من معرفة النشاط الذي يشفّر مشاعر الأشخاص”. ويعمل فريق ويدج، شأنه شأن فريقي تشانج وجودمان، مع أخصائيين في الأخلاقيات العصبية للتعامل مع المخاوف الأخلاقية المحيطة بعمل الفريق.ومع ذلك.. حسبما يقول تشانج، فإن التقنيات التي يطورها فريقه والفرق الأخرى ليست سوى خطوة أولى في طريق التوصل لعلاج أفضل لاضطرابات المزاج. ويتنبأ تشانج بأن تساعد البيانات المستقاة من تجارب غرسات الدماغ الباحثين على تطوير علاجات تحفز الدماغ عن طريق الجمجمة. ويقول: “للمرة الأولى ستكون لدينا نافذة نطل منها على الدماغ، حيث نعرف ما الذي يحدث فيه عندما ينتكس شخص ما”.
سارة ريردون – arabic nature