يتميز هذا الكتاب بأن له توجّهاً مستقبلياً، وإن كانت فصوله تتسم بأنها ترتبط بالواقع العملي للبشرية، وخاصة في ضوء ما يقوم به المؤلف من رصد لتطورات هذا الواقع.
والكتاب يشكّل رحلة فكرية يتم خلالها رصد انتقال البشرية من حياة الزراعة والصناعة إلى عوالم الحاسوب الإلكتروني وتكنولوجيا المعلومات حيث يتوقع المؤلف خلال حقبة زمنية ليست بالبعيدة أن تسود كائنات الذكاء الاصطناعي (الروبوت) حياة الناس ولدرجة أن يأتي يوم ليشهد منافسة محتدمة بين الإنسان والروبوت وبشأن مَنْ يصدر الأوامر ومن يعطي التوجيهات وفي ضوء التطور المتوقع خلال فترة زمنية ليست بالطويلة كي ينافس في مجالات التصنيع والإنتاج فضلاً عن مجالات رعاية الأطفال والمرضى والمسنين.
ويركز الكتاب على ما أصبح يتسم به عصرنا الراهن من سيادة عوامل الشيفرة ونظم تدوين البيانات وتبادلها والتعويل عليها بعد أن أصبحنا نعيش عصر المعلومات، حيث بات جيل أطفالنا في معايشة هذه المستجدات من خلال تعاملهم المبكر مع الهواتف المحمولة والأجهزة المحدثة وبما جعل التواصل البشري مكفولاً بالكلمة والرمز والصوت والصورة على السواء.
في عام 1970، ذروة من أيام الحرب الباردة بين معسكري الشرق الشيوعي (بقيادة موسكو) والغرب الرأسمالي (بقيادة واشنطن)، كان الغريمان قد أحرزا نقاطاً عديدة، وخاصة في مجال استشراف واستكشاف أجواز الفضاء الخارجي.
بدأ السوفييت في عام 1957 بإرسال سبوتنيك، أول قمر اصطناعي في التاريخ، إلى الفضاء.
وبرغم مشاعر القهر بل الغمّ السياسي والتكنولوجي التي أصابت واشنطن أيامها، فقد أمضت أميركا نحواً من 12 عاماً في محاولات أكثر من مضنية لإثبات ذاتها، ومن ثم تفوقها إلى أن كُللت هذه المحاولات الأميركية بابتعاث أول إنسان اتخذ خطواته على سطح القمر، شخصياً وهو أرمسترونغ. وكان ذلك في عام 1969.
هذه الفتوحات هي التي مهدت السبيل لكي يأتي عام 1970 فيشهد صدور كتاب بالغ الأهمية إلى درجة الخطورة وجاء عنوانه كما يلي «صدمة.. المستقبل».
والكتاب من تأليف المفكر المستقبلي الأميركي ألفين توفلر الذي رحل عن دنيانا في 27 يونيو الماضي (من مواليد 4 أكتوبر 1928).
والحق أن جاء كتاب «صدمة المستقبل» بمثابة صدمة حقيقية، بمعنى أنه كان بمثابة طرقة أو خبطة مفاجئة على عقل عالم تحولات الصناعة، وهو أيضاً عالم ما قبل تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، وهي التي باتت تجسد ما آلت إليه وما أثمرته ثورة الحواسيب الإلكترونية التي سبق إلى التبشير بها ألفين توفلر نفسه في كتابه الذي يكاد يشارف بعد سنوات قلائل سن الخمسين من عمر زماننا.
ولعل أهم ما جاء به كتاب «صدمة المستقبل» يتمثل في أنه ظل يبشر بأن أبناء الجيل الذي تلا صدوره، وهو يكاد يشكل الجيل الحالي، سوف يشهدون من ثمار التكنولوجيا السوبر- متقدمة ما يجعلهم يتابعون مسيرة التغيير المتواصل في العالم، مع دخول البشرية سنوات القرن الحادي والعشرين، خاصة بعد أن شهد آخر عقود القرن العشرين دخول شبكة الإنترنت العالمية وبالأدق الكوكبية حياة الناس، فضلا عما شهده العالم عبر سنوات قليلة مضت من التطور المشهود، المذهل في بعض الأحيان في سبل الإعلام والتواصل الاجتماعي على نحو ما يعيشه سكان عالمنا في مشارق ومغارب هذا الكوكب.
صناعات المستقبل
وسط هذه الأجواء يصدر الكتاب المهم الذي نعايشه فيما يلي من سطور، ولم يكن مصادفة أن يحمل كتابنا العنوان التالي، «صناعات المستقبل».
ونبادر كي ننبه إلى أن الكتاب لا يتناول أي نمط أو أي نوعية من أنواع التصنيع، ولكنه يركز عبر فصوله الستة على ما يمكن أن نطلق عليه التسمية التالية، الأساليب المتقدمة المختلفة في صنع أو (صياغة) المستقبل.
ولان مواضيع وقضايا هذا الكتاب تكاد تنبض عبر الصفحات بقدر لا يخفى من حيوية العرض واندفاعه التطلع دوماً إلى الآتي، فقد كان طبيعياً، إن لم يكن بديهياً، أن ينتمي مؤلف الكتاب إلى جيل أقرب إلى الشباب، حيث ولد في عام 1971، السنة التالية لصدور كتاب «صدمة المستقبل» الذي بدأنا به استهلال هذه السطور.
مؤلف كتابنا هو الباحث – المفكر الأميركي أليك روس، الذي عمل على مدار أربع سنوات (2009- 2014) مستشاراً لدى وزيرة خارجية الولايات المتحدة في تلك الفترة –هيلاري كلينتون، فيما يسترعي الانتباه، وهذا درس مستفاد فيما نرى بالنسبة لأوساطنا العربية، أن كان مؤلفنا مستشاراً لوزيرة خارجية أميركا لشؤون التجديد والابتكار في مجالات الإبداع التكنولوجي.
من افتتاحية هذا الكتاب الصادر في صيف عام 2016 الحالي، يطرح المؤلف رؤيته بشأن ما يراه، أو بالأدق ما يستشرف حدوثه، من تغييرات في حياة الإنسانية على مدار السنوات العشر المقبلة. وهو يعرض هذه الرؤية المستقبلية من خلال عدة محاور يراها أساسية في حدوث وإنجاز هذه التغييرات.
من هذه المحاور ما يتعلق مثلًا بتطوير كائنات الذكاء الاصطناعي – الروبوت (الإنسان الآلي كما يسمونه في بعض الأدبيات العربية). ومنها أيضاً ما يتصل بما يصفه مؤلفنا بأنه الأمن السيبراني بمعنى سبل وضمانات الأمن والسلامة المستندة إلى مشتقات وعناصر وابتكارات الحواسيب الإلكترونية، ومنها كذلك ما يتصل بأنشطة الاقتصاد وحركة أسواق البيع والشراء، الاستيراد والتصدير، وهو ما يصفه مؤلفنا قائلاً، هو الأثر المتوقع في المستقبل القريب الناجم عن استخدام وتفعيل التكنولوجيا الرقمية على حركة الأموال ونشاط الأسواق.
من تحديات الإنسان والآلة
إن قارئ الكتاب لا تفوته من المطالعة الأولى لجدول المحتويات ملاحظة اهتمام المؤلف بالربط بين الإنسان- الكائن البشري وبين الإنسان الآلي – الروبوت. هنا يتطرق المؤلف إلى ما يطلق عليه العبارة التالية التي اتخذها عنواناً للفصل الثاني من الكتاب: «مستقبل الآلة البشرية».
وفي إطار هذه النظرة التكاملية يستهل المؤلف مقولات الكتاب بفصل يحمل العنوان التالي: «هنا يأتي الروبوت». ثم يمضي أليك روس ليشير إلى أن التحولات التي طرأت على الحياة في كوكب الأرض خلال الثورة الصناعية (من القرن 18 إلى القرن الحالي) قامت بداهة على عاتق الكائن البشري، ولكن مع مجيء كائن الروبوت الاصطناعي فقد بات البشر مهددين حالياً ومستقبلاً بأن يحرمهم الروبوت المذكور أعلاه من وظائفهم، سواء كانت في مضمار الصناعة أو الإدارة أو كانت حتى في مجال الرعاية والعناية المطلوبة لصالح الأطفال والمرضى والمسنين والمحتاجين على السواء.
ثم يمضي المؤلف أيضاً إلى حيث يدلل، في بلاغة حاسمة لا تُنكر، على أنماط ونوعية التحولات الخطيرة التي استجدت على حياة البشر. وخاصة من حيث المواد الأساسية التي يتعامل معها مجتمع البشر محوراً لحياتهم وقاعدة لما يبذلونه من نشاطات، من عصر الزراعة إلى عصر المعلومات.
من هنا يحمل الفصل الخامس من هذا الكتاب العنوان التالي، البيانات، المادة الأولية (الخام) المستجدة في عصر المعلومات.
وفي معرض التفسير يدور الفصل المذكور على مقولة تفيد بما يلي:
• في عصر الزراعة الذي بدأت به البشرية حياتها وكسبها ومعايشها على سطح كوكب الأرض كانت المادة الأولية الخام والأساسية اسمها الأرض.
• وحين تحولت البشرية – كما ألمحنا في سطور سبقت- إلى عصر الصناعة الذي تجسدت ملامحه الأساسية في دخول الآلة – الماكينة حياة البشر أصبح الحديد هو المادة الأولية الخام والأساسية مع اختلاف القوالب والأشكال والاستخدامات.
ومن عصر الزراعة إلى عصر الصناعة، تحولت البشرية إلى عصر جديد تماماً، هو عصر المعلومات الذي أدخل إلى حياة كوكبنا مادة أولية غير مسبوقة، وهذه المادة الخام تحمل اسم البيانات (Data).
وهنا يتحدث المؤلف عن المواقف الطريفة التي بدأ بها حياته في أرياف غربي ولاية فرجينيا القريبة من العاصمة واشنطن، في ثمانينات القرن الماضي كان قصارى جيله من الأطفال والناشئين أن يتواصلوا على متن الدراجات الهوائية، التي تكفل لهم سبل التزاور والحركة خلال المسالك والدروب. كان آباؤهم وأمهاتهم يكتفون بإطلاقهم في نواحي المكان، فيما يدركون أن الطفل سيمضي في اللعب واللهو مع أقرانه، ولن يعود إلى البيت إلا بعد أن يشعر بالجوع.
لكن مثل هؤلاء الأطفال في زماننا الحالي لا ينقطع سبيل تواصلهم في كل لحظة مع الآباء والأمهات، صار الطفل يحمل هاتفاً محمولاً وصارت الأسرة في حال من التواصل المستمر من خلال المكالمات المتبادلة أو الرسائل النصّية بل وإشارات جهاز تحديد المواقع (جي.بي. إس).
هكذا يستهل الناشئة خطواتهم على عتبات الحياة، فيما يتركون بصماتهم على وسائل الاتصال الاجتماعي بالصوت والكلمة والصورة على السواء. وهو ما يدفع مؤلف هذا الكتاب إلى أن يصف هذه التطورات الباكرة في حياة الجيل البازغ قائلًا، بهذا يصبحون منارات ورواداً لعملية إنتاج البيانات واستهلاكها، ولو حدث أن خرج واحد من أبنائي الثلاثة عن إطار شبكة الاتصالات الإلكترونية إياها لأصبحنا أنا وزوجتي في حال من القلق والجزع الشديد، خوفاً من أن يكون الأمر قد انطوى على مكروه وقع هنا أو هناك.
تسجيل البيانات عبر التاريخ
بعدها يمضي المؤلف إلى تفسير مثل هذه الأوضاع أو المواقف موضحاً أن الآباء والأمهات في زماننا باتوا مقتنعين بأن كل فرد أصبح من الممكن الوصول إليه، بمعنى تحديد موقعه ثم محادثته بالكلمة أو الصوت أو الرمز (الكود) أو الصورة، وعلينا أن نسلّم بأن الطفل في عصرنا الحالي ما أن يتسلم أول هاتف خليوي، أو ما أن يشرع في ممارسة أول لعبة فيديو نضعها في متناوله، فمعنى هذا أنه يشرع في بناء حزمة متشابكة من البيانات الشخصية التي من شأنها أن تزيد وتتراكم وتنمو وتنضج على مدار سنوات حياته.
بيد أن هذا التراكم للبيانات والمعلومات ليس وليد اليوم، ولا هو بالأمر المستجد في عصرنا الحالي. صحيح أن هذا العصر مازال يشهد حالة انفجار في البيانات والمعلومات، ولكن حياة الناس، عبر ما مضى من آلاف السنين ظلت تشهد عمليات حفظ السجلات ابتداء من ألواح الفخار إلى لفائف البردي إلى الرقائق المصنوعة من جلود الحيوان. لهذا جاء التوصل إلى أول الصفحات الورقية المصنوعة من الخشب أو لبّ الأشجار ليشكل تقدماً مشهوداً في حياة البشر، ولكن جاء التوصل إلى المطبعة ليشكل الملمح المحوري، بل الثوري بكل معنى، في تسجيل معالم ومعلومات الحياة البشرية .
العالم كما يبدو في 2035
إن مؤلفنا إليك روس يقلب النظر عبر السنوات الأربعين، التي يدير على أساسها مقولات هذا الكتاب، يقسّمها إلى 20 سنة انقضت بالفعل وبدأت بالطبع عند منتصف التسعينات، ثم إلى 20 سنة مقبلة من الآن وحتى عام 2035.
مؤلفنا يتنبأ – على أسس من البحث العلمي والاستشراف التكنولوجي- بأن تمضي حياة البشر خلال العشرين سنة المقبلة على وتيرة أسرع خطى وعلى أساس صيغة أعمق تحّولاً وتغيّراً مما كان عليه الحال خلال السنوات العشرين المنقضية.
في هذا السياق ينبه المؤلف إلى أن المسالة ليست ميسورة من الوهلة الأولى. صحيح أن من البشر من سيطير فرحاً إزاء هذا الإيقاع المتسارع في الحياة بفضل ما هو متوقع من إنجازات التكنولوجيا. لكن الصحيح أيضاً أن هذه المتغيرات التقنية المأمولة سوف تقتضي بالضرورة اتخاذسبل الاستعداد والتأهيل من أجل التوصل إلى فهم عميق وتفعيل عملي يفضي إلى التكيف مع طبيعة تلك المتغيرات وفهم قوانين حركتها وطرائق عملها.
والكتاب في هذا السياق بالذات لا ينسى أن يتوجّه إلى البلدان النامية والشعوب المتطلعة إلى التقدم ومن ثم إلى أجيال الشباب الطالع مفعماً بالأمل. ومن هنا يلح المؤلف على طرح أسئلة بليغة وأساسية من قبيل، كيف تأمل الدول – الأمم الناهضة في مجاراة ومؤازرة ما ينتج عن وادي السليكون في كاليفورنيا بأميركا من ابتكارات باعتباره محور الإبداعات والتجديدات والمستقبليات على مستوى عالمنا بأسره؟
ثم السؤال الأكثر تواضعاً وربما الأكثر إلحاحاً على المستوى الاجتماعي هو: ماذا يمكن أن يقوم به الآباء في زماننا الراهن من أجل إعداد أبنائهم لمطالب ومقتضيات الغد بكل ما يحفل به هذا الغد.
العالم يواجه حرب الشيفرة
يواصل المؤلف تعميق المقولات المتعلقة بهيمنة الروبوت على البشر، فهو يذهب في الفصل الرابع إلى حيث يقول إن العالم خرج من ربقة الحرب الباردة التي انتهت مع عقد التسعينات إلى حرب الشيفرة.
وفي هذا السياق يعمد إلى مقارنة الألفاظ التي تفيد بأن التحول تمّ من حرب باردة (Cold) إلى حرب مشفرة (Code) وهي حرب المدونات والرموز وتكنولوجيا واستخدامات الحاسوب الإلكتروني وتحويل حياة البشر من عمليات تبادل الاتهامات المذهبية والنظرية والأيديولوجية إلى عملية العكوف على ترجمة الشفرات وفك الرموز.
المؤلف
في عام 1971 وُلد خبير المعلومات، أليك روس في ولاية فيرجينيا الغربية بالولايات المتحدة، وتخصص خلال دراسته الجامعية في موضوع تاريخ العصور الوسطى. ولكنه تحّول إلى التركيز المتعمق على مجالات تقنيات واستخدامات الحاسوب الإلكتروني وتجليات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتحق بالعمل في موقع المستشار الأقدم المعني بعمليات الابتكار والتجديد بوزارة خارجية الولايات المتحدة في واشنطن.
تأليف: إليك روس
عرض ومناقشة: محمد الخولي
الناشر: مؤسسة سيمون أند شوستر، نيويورك، 2016
عدد الصفحات: 304صفحة
البيان