عندما ترك أندرو نِج جامعة ستانفورد في عام 2011، وانتقل إلى شركة «جوجل»، كان حينها من بين مجموعة صغيرة جدًّا من خبراء الذكاء الاصطناعي «AI» في الأوساط الأكاديمية، الذين تولوا مناصب في مجال الصناعة. وبعد مرور خمس سنوات على ذلك، زاد الطلب على خبراء الذكاء الاصطناعي بشكل مذهل؛ ومن ثم اتجه سيل من الباحثين إلى اتباع مسار نِج نفسه. تكتظ مختبرات عمالقة التكنولوجيا «جوجل»، و«مايكروسوفت»، و«فيسبوك»، و«آي بي إم»، و«بايدو» ـ عملاق خدمات شبكة الإنترنت في الصين ـ بعلماء أكاديميين سابقين، جذبتهم الشركات الخاصة بمواردها الحاسوبية الخارقة ورواتبها العالية. «هناك أكاديميون يلقون باللوم عليَّ لبدء هذا الاتجاه»، كما يقول نِج، الذي انتقل مرة ثانية في عام 2014 إلى «بايدو»؛ ليصبح كبير العلماء هناك، وهو يعمل في مختبر أبحاث الشركة في «سيليكون فالي» بكاليفورنيا.
يرى كثير من العلماء أن اهتمام الشركات المكثف يعود بالنفع على مجال الذكاء الاصطناعي، فهو يجلب موارد هندسية هائلة إلى المجال، مُظْهِرًا أهميته في العالم الواقعي، كما يجذب الطلاب المتحمسين، إلا أن بعضهم يشعر بالقلق إزاء الآثار التي ستتبع هذا الانتقال الصناعي؛ الأمر الذي قد يترك الجامعات خالية ـ مؤقتًا ـ من أفضل المواهب، كما يمكن أن يغيِّر وجهة المجال نحو مساعٍ تجارية تأتي على حساب البحوث الأساسية.
تستثمر الشركات الخاصة بشكل كبير الآن في الذكاء الاصطناعي ـ وتحديدًا في تقنية تُدعى «التعلم العميق» ـ لتفي بالوعد الذي قطعته بأن تصل إلى فهْم جيد؛ من خلال جمع كميات هائلة من البيانات. وقد تستطيع أنظمة الذكاء الاصطناعي المتطورة خلق مساعدين شخصيين رقميين فعّالين، أو التحكم في سيارات ذاتية القيادة، أو القيام بمهام أخرى شديدة التعقيد بالنسبة إلى طرق البرمجة التقليدية. وتتيح موارد مختبرات الشركات التقدُّمَ الذي قد لا يكون ممكنًا في الأقسام الأكاديمية، كما يقول جيفري هينتون، وهو رائد في مجال التعلم العميق في جامعة تورونتو في كندا، ويعمل في شركة «جوجل» منذ عام 2013. ويستطرد قائلًا إنّ مجالات التعبير والتعرف على الصور مثلًا تم تعليق العمل فيها لسنوات، بسبب عدم وجود بيانات كافية لتُستخدم في خوارزميات التدريب، ولوجود نقص في الأجهزة. وقد استطاع التغلب على تلك العقبات في شركة «جوجل».
«إن مجال الذكاء الاصطناعي نشط جدًّا الآن. وهناك الكثير من الفرص، لكن عدد المتخصصين الذين يمكن أن يعملوا بها قليل جدًّا»، حسب قول نِج، الذي يضيف قائلًا إنه قد جذبه الكم الهائل من البيانات في الشركة، والقوة الحاسوبية بها، وقدرتها على معالجة مشكلات العالم الواقعي. وإضافة إلى ذلك.. يكمن أحد الإغراءات الأخري في الرواتب «الفلكية» التي تقدمها الشركات الخاصة، كما تقول تارا سنكلير، كبير الاقتصاديين في شركة «إنديد» Indeed، ومقرها في أوستن بولاية تكساس؛ حيث تقوم الشركة بجمع الوظائف المنشورة على شبكة الإنترنت، وقد سجلت وجود طلب متزايد على الوظائف في مجال الذكاء الاصطناعي في بريطانيا والولايات المتحدة.
ويشير الحماس حيال الفكرة إلى كون مجال الذكاء الاصطناعي في مرحلة الآن يمكن له فيها أن يحقق أثرًا في العالم الواقعي. والشركات هي السبيل الطبيعي لتحقيق ذلك، كما يقول بيتر أبييل، المتخصص في مجال الذكاء الاصطناعي والتعلم العميق في جامعة كاليفورنيا في بيركلي. وقد حدثت هجرة وظيفية مماثلة في مجال أبحاث أشباه الموصِّلات في الخمسينات، عندما تم جذب العديد من الشخصيات البارزة في المجال إلى مناصب رؤساء مختبرات البحث والتطوير في المصانع، كما يقول روبرت تيجسين، عالِم الاجتماع في جامعة ليدن في هولندا. ومن ثم، فإن تحرك الأكاديميين يجلب الخبرات إلى مجال الصناعة، بينما يمدّ شبكات التواصل بين الشركات الجديدة وزملاء الباحثين وطلابهم السابقين، وهو أمر «مربح لكل الأطراف»، كما يقول تيجسين.
أوجه التعاون بين الشركات
يؤيد هذا الرأي هيرمان هيرمان، مدير المركز الوطني الأمريكي لهندسة الروبوتات، ومقره في جامعة كارنيجي ميلون في بيتسبرج في بنسلفانيا. في عام 2015، قام تطبيق «أوبر» Uber لطلب السيارات ـ الذي كان يتعاون مع المركز في حينها ـ بتوظيف ما يقرب من 40 ـ 150 باحثًا من باحثي المركز، لا سيما أولئك الذين يعملون على السيارات ذاتية القيادة. أشارت التقارير في ذلك الوقت إلى أن المركز قد واجه أزمة حقيقية، إلا أن هيرمان يقول إن الأمر كان مُبَالَغًا فيه. فقد كان هذا المشروع واحدًا من بين عشرات المشروعات في المعهد الذي يضم 500 عضو هيئة تدريس. وكانت تلك الخطوة فرصة جيدة لضخ دماء جديدة. وسرعان ما تبرعت شركة «أوبر» بمبلغ 5.5 مليون دولار أمريكي؛ لدعم المنح الدراسية للطلاب وأعضاء هيئة التدريس في المعهد. وفي الوقت نفسه، رفعت الدعاية من مكانة الأعمال التي يقوم بها المركز، حسب قول هيرمان؛ وارتفعت أعداد طلبات التقديم.
ويثير فقدان الخبرات في المجال الأكاديمي قلق يوشوا بنجيو، عالِم الحاسوب في جامعة مونتريال في كندا، الذي شهد أيضًا ارتفاعًا مفاجئًا في الطلبات المقدَّمة للدراسات العليا. فإذا ما احتفظ بعض أعضاء هيئة التدريس المعيَّنِين في مجال الصناعة بأدوارهم في الجامعات ـ كما فعل هينتون في جامعة تورونتو ونِج في جامعة ستانفورد في ولاية كاليفورنيا ـ فإنهم عادةً يَظَلُّون قلة قليلة، كما يقول بنجيو. ومن جانبه، يضيف أبييل قائلًا إن فقد أعضاء من هيئة التدريس يقلل عدد الطلاب الذين يمكن تدريبهم، خاصة في مرحلة الدكتوراة.
أمّا هينتون، فيتوقع أن نقص خبراء التعلم العميق لن يدوم طويلًا. «إن السحر الخاص بأبحاث الدراسات العليا التي تتم في الجامعات شيء ينبغي الحفاظ عليه. وتدرِك شركة ‹جوجل› ذلك»، كما يقول. وبالفعل، تموِّل الشركة حاليًّا أكثر من 250 مشروعًا بحثيًّا أكاديميًّا، وعشرات المِنَح الدراسية لدرجة الدكتوراة.
ومن خلال إمداد مجال الصناعة بالمواهب، فإن الجامعات تحقِّق بذلك دورها الطبيعي؛ حسب قول مايكل وولدريدج، عالِم الحاسوب في جامعة أكسفورد في المملكة المتحدة. وفي ظل الاهتمام العام المتزايد بالذكاء الاصطناعي، يرجو وولدريدج ألا يرى الجامعات تُترك مهجورة. فقد تعاقدت شركة «جوجل ديب مايند» Google DeepMind ـ ومقرها لندن ـ مع عشر باحثين من جامعة أكسفورد في عام 2014، إلا أن جوجل قد منحت الجامعة إسهامًا ماليًّا بلغ عدة ملايين، كما شكلت تعاونًا بحثيًّا معها (انظر: «جوجل ديب مايند تنتزع المواهب»). ولا زال العديد من الأكاديميين الذين تم جذبهم لمجال الصناعة محتفظين بمناصبهم التدريسية ويمارسون مهامّهم هناك، وهو ما يعطي فرصًا للطلاب، ربما لم يكونوا ليحظوا بها أبدًا بأي وسيلة أخرى.
ويشعر بنجيو بالقلق أيضًا إزاء الآثار طويلة الأمد لهيمنة الشركات. يقول بنجيو إنّ الباحثين في مجال الصناعة يحافظون على السرية بشكل أفضل. فبرغم أن العلماء في بعض مختبرات الشركات ـ مثل تلك الموجودة في «جوجل»، و«بايدو» ـ لا يزالون ينشرون أوراقًا علمية ورموزًا حاسوبية بشكل مفتوح ـ مما يسمح لآخرين بأن يستخدموا أعمالهم كأساس لبناء أبحاثهم ـ إلا أن بنجيو يجادل بأن باحثي الشركات لا يزالون ـ في كثير من الأحيان ـ يتجنبون مناقشة أعمالهم قبل نشرها، إذ إنهم أكثر مَيْلًا من الأكاديميين إلى التقدم للحصول على براءات اختراع. ويضيف: «هذا يجعل من التعاون أمرًا أكثر صعوبة».
ويبدي بعض المُطَّلِعِين على تلك الصناعة قلقهم بشأن الشفافية أيضًا. ففي شهر ديسمبر من عام 2015، كان إيلون مَسك ـ مؤسِّس «سبيس اكس» SpaceX ـ واحدًا من ضمن مجموعة من المستثمرين في «سيليكون فالي»، الذين أطلقوا شركة غير ربحية تُدعى «أوبن إيه آي» OpenAI في سان فرانسيسكو بكاليفورنيا. وإذ تلقَّت الشركة وعدًا من مسانديها بمنحها مليار دولار أمريكي، فهي تهدف إلى تطوير الذكاء الاصطناعي؛ من أجل الصالح العام؛ إذ تقوم بمشاركة براءات الاختراع الخاصة بها، وتتعاون مع مؤسسات أخرى بِحُرِّيَّة.
وعلى الرغم من التزام «جوجل»، و«فيسبوك»، وما شابههما حاليًّا بمعالجة المسائل الأساسية في مجال الذكاء الاصطناعي، إلا أن بنجيو يخشى ألّا يدوم ذلك طويلًا، ويقول: «لا تهتم المشروعات الرأسمالية سوى بالأهداف قصيرة المدى. إنها طبيعة ذلك الوحش». وهو في ذلك يستشهد بشركتي الاتصالات «بيل لابز» Bell Labs، و«إيه تي آند تي» AT&T كمثالين على الشركات التي كانت لديها مختبرات بحثية قوية، لكنها في نهاية المطاف خسرت مواهبها، عن طريق التركيز كثيرًا على الهدف قصير المدى لجني الأموال لصالح الشركة.
ويصِرّ هينتون على أن البحوث الأساسية تستطيع أن تزدهر في مجال الصناعة، ويقول إنه نظرًا إلى الحاجة المُلِحَّة إلى أبحاث الذكاء الاصطناعي، فإن بعض التوسع الحادث اليوم في البحوث الأساسية يجري حتمًا داخل الشركات، لكن ستستمر الأوساط الأكاديمية في لعب دور حاسم في أبحاث الذكاء الاصطناعي. ويضيف قائلًا: «هذا هو المكان الأكثر احتمالًا للحصول على أفكار جذرية جديدة منه».
nature arabic edition