اتسمت الثورات التكنولوجية بقلتها وتباعد المسافات الزمنية بينها، ومثال ذلك: اخترع جيمس وات المحرك البخاري عام 1781 ليضع بذلك أساس الثورة الصناعية الأولى. لكن بعد قرن كامل من الزمن، تم استخدام الكهرباء واختراع محرك الاحتراق الداخلي إبان الثورة الصناعية الثانية. ولم يبدأ عصر المعلوماتية بشكل فعلي حتى سبعينيات القرن الماضي، وهذا أدى إلى ما يدعوه العديدون الآن بـ”الثورة الصناعية الحديثة”، التي تدمج التصميم بالحواسيب مع تقنيات التصنيع المتقدمة مثل: الطباعة ثلاثية الأبعاد. غير أن الثورة التالية في مجال الطاقة بشكل خاص، لا تزال تمضي قدماً؛ ففي حين تصدر انخفاض أسعار النفط العناوين الصحافية مؤخراً، يتنبأ (سيتي بنك-Citibank) بأن ازدهار الصخر الزيتي سيكون وسيلة للعبور إلى عهد جديد من الطاقة المتجددة. وهذه الثورة، ستكون مؤثرة بشكل أكبر من غيرها، ففي حين أن الثورات السابقة منحت الشركات الكبرى القوة فإن هذه الثورة ستنهيها.
حينما لم تكن الشمس تغيب عن الإمبراطورية البريطانية:
لقد كان الاستعمار مربحاً لبريطانيا العظمى، نظراً لكونها جزيرة صغيرة محدودة الموارد. فكانت تسيطر على الموارد الطبيعية في البلدان التي تستعمرها: القطن والتبغ من أميركا والشاي والتوابل من آسيا. كما أن كبرى الدول الأوروبية كانت تحذو حذوها كي تأخذ حصتها من الموارد غير المتوافرة فيها. إلا أن الثورة الصناعية سرّعت من هذا التوجه؛ إذ قللت السفن البخارية والسكك الحديدية من زمن السفر إلى تلك البلاد، مما جعل من السهل استعمارها وإدارتها بشكل أكثر فعالية. ودليل ذلك أنه في عام 1876 حكم الأوروبيون أكثر من 10% من أفريقيا، وبحلول عام 1914 حكموا أكثر من 90% من القارة كلها. إن هذه التغيرات لم تؤثر على سكان المستعمرات وحسب، بل على شكل الحياة في دول أوروبا الصناعية أيضاً.
ظهور البيروقراطية
أشار عالم الاجتماع ماكس ويبر في بدايات القرن الـ20، إلى أن ظهور الأتمتة قد يؤدي إلى إحداث تغيير في النظم بشكل عام، وأنه ومع استبدال الصناعات الصغيرة بالشركات الكبيرة، ستكون القيادة أقل تقليدية وتأثيراً وأكثر اتباعاً للإجراءات البيروقراطية والعقلانية. لقد كان المحفز الأكبر للشركات في القرن الماضي، هو المزايا الضخمة التي ستمكنها من امتلاك المزيد من الموارد والسيطرة عليها، وبالتالي تزيد قدرتها على المساومة وتعزيز سطوتها. وقد رسخت تكنولوجيا المعلومات هذه التوجهات في البداية، فالشركات الضخمة هي الوحيدة التي كانت قادرة على شراء أنظمة الحواسيب والموارد البشرية، لكن مع ظهور الحوسبة الشخصية والإنترنت، بدأ هذا التوجه يتغير شيئاً فشيئاً.
عصر المنصات الجديد
في حين أفضت الثورتان الاولى والثانية إلى مزيد من المركزية، أدت الثورة المعلوماتية إلى اللامركزية على نطاق واسع. فقد أصبحت الأنظمة الحاسوبية رخيصة ومتوافرة، مما مكّن الشركات الصغيرة من شرائها. كما أن ظهور الإنترنت والهواتف النقالة رفع من مستوى التغير بتقليل تكاليف التعاملات التجارية للجميع، وليس للشركات الضخمة فقط. وأصبح بإمكان أي شخص اليوم تصميم فكرة ما عن طريق البرامج الحاسوبية، أو خلق نموذج أولي عبر الطابعة ثلاثية الأبعاد، والحصول على التمويل، فضلاً عن التسويق عبر غوغل وفيسبوك. وقد أحدث هذا تغييراً عظيماً في حاجتنا للمنافسة وكيفيتها. فالمنافسة للحصول على أفضل المعلومات، حلت مكان المنافسة للحصول على أفضل أرض أو منجم فحم على سبيل المثال. كما أن انتهاء (اقتصاد السعة- scale economy) كان له تأثير كبير على كل مناحي الحياة؛ فعلى النقيض من عصر المستعمرات، تهدف الحروب إلى السيطرة الأيديولوجية بدلاً من السيطرة على الأرض فقط.
التداعي الأخير
لكن هذا التحول غير كامل؛ فلا يزال هناك مصدر واحد وأكثر أهمية: إنه الطاقة. فلا نزال نعتمد على الوقود الأحفوري من باطن الأرض، وننافس للحصول عليه؛ كما أننا نعتمد بشكل كبير على رفد الاقتصاد المعلوماتي بالكهرباء المتولدة من شركات الطاقة المركزية. لكن هذا الأمر بدأ بالتغير، لأن التكنولوجيا صارت تنتج الطاقة أيضاً. ففي تقرير حديث أصدرته (ماكنزي-McKinsey) تبين أن في العديد من البلدان تتفوق الطاقة الشمسية على مصادر الطاقة التقليدية الأخرى، وأنه مع استخراج الطاقة من الخوارزميات عوضاً عن الوقود الأحفوري، ستستمر العائدات المتسارعة بتقليل التكاليف تصاعدياً. فيما نلاحظ الآن تحولاً من توزيع القدرات والموارد المركزية إلى نشر القدرات والموارد التي يتم إنتاجها والوصول إليها محلياً. وتأثير ذلك سيكون عظيماً، لاسيما في الدول النامية (المستعمرة سابقاً) مثل: الهند، حيث تعيق شبكات الكهرباء غير المكتملة الاستثمار والحداثة. ونتيجة لذلك، تعد الطاقة هي الحدث المتداعي الأخير في عصر المعلوماتية. وفي حين يصعب التنبؤ بدقة عن ماهية نتائج ثورة الطاقة، هناك أمر آخر: خلال الجيل المقبل، ستنفصل القوة والتأثير عن ملكية الموارد، وستتعلقان بشكل متزايد بالمعلومات.
فوربس ميدل ايست