لم يستمر وجود المهدي المنجرة على رأس الإذاعة الوطنية طويلا، إذ سرعان ما قدم استقالته والتحق بمنظمة اليونسكو عام 1962 كمدير لديوان المدير العام للمنظمة “روني ماهو”. ويعتبر المنجرة تجربة العمل مع “ماهو” تجربة خصبة أغنت رصيده العلمي والثقافي والقيمي، كما شكلت سنوات العمل في هذه المنظمة رحلة ثقافية هامة في حياة الدكتور المهدي برد الله فراشه، فقد سنوات الستينات كانت منظمة اليونسكو ساحة حرب حقيقية على الصعيد الثقافي بين الدول الغربية المنقسمة إلى معسكرين، معسكر غربي وآخر شرقي، كما كانت ساحة للصراع الثقافي بين النموذج الفرنسي والنموذج الأمريكي الذي كان يسعى إلى الهيمنة الثقافية والقيمية على العالم، ومن هنا برزت حساسية الدكتور المنجرة ضد الثقافية الأمريكية بشكل خاص وثقافة الهيمنة والقوة بشكل عام. وخلال تلك المرحلة تعرف المنجرة على أسماء كبيرة في المشهد الثقافي والفكري الفرنسي والعالمي، أمثال أندريه مالرو، المفكر والروائي الفرنسي الذي عمل وزيرا للثقافة في عهد ديغول، وبالرغم من أن المنجرة لا يرى جدوى من تولي المفكرين والمبدعين مسؤوليات حكومية ويعتبر أن تلك المسؤوليات تحرق رصيدهم، إلا أن لديه تعليقا طريفا على تولي مالرو حقيبة وزارة الثقافة، إذ يقول بأن مالرو تولاها في عهد ديغول، وهي مصادفة لا تتكرر لأن ديغول شخص نادر ومالرو شخص نادر، كما يقول الدكتور المنجرة.
ترأس المنجرة الفيدرالية الدولية لدراسات المستقبل بين عامي 1977 و1981، وأدار مجلة”فوتوريبل” المتخصصة في علم المستقبليات التي تصدر بفرنسا. وبالموازاة مع عمله في منظمة اليونسكو، تقلد المنجرة عدة مناصب على الصعيدين الوطني والدولي، وساهم في تأسيس الفيدرالية الدولية للدراسات المستقبلية والمنظمة المغربية لحقوق الإنسان والأكاديمية الإفريقية للعلوم والأكاديمية الدولية للفنون والآداب.
وقد غذت هذه التجارب فكر الدكتور المنجرة وجعلته رجلا متعدد الروافد منفتحا على مختلف المعارف والثقافات، ولذا صب جل اهتمامه على القضايا الحضارية الكبرى وعلوم المستقبليات، باعتبار هذه الأخيرة انعكاسا لمسار الحضارات، وكان يشدد كثيرا على الخصوصية الحضارية إلى حد التعصب، لأنه كان واعيا بأن من دون خصوصية لا يمكن الانخراط في الحضارة العالمية التي هي مساهمات مختلفة للحضارات والثقافات البشرية، وكان يحذر كثيرا من الهيمنة الثقافية الغربية والأمريكية بوجه خاص، وفرض نمط معين من القيم الحضارية على باقي الشعوب، ولذلك كان كتابه ذائع الصيت الذي جمع فيه الكثير من مقالاته ودراساته وحواراته الصحافية تحت عنوان”الحرب الحضارية الأولى:مستقبل الماضي وماضي المستقبل” ذا دلالة خاصة. فقد جمع الكتاب ونشره عام 1991 مع اندلاع الحرب الخليجية الأولى بعد الغزو العراقي للكويت، والهجوم العسكري للتحالف الدولي بقيادة أمريكية على العراق، وكان تصور المنجرة أن تلك الحرب هي حرب حضارية تستهدف ضرب المقومات الحضارية للعراق، وليس مجرد طرد الاحتلال العراقي من الكويت.
ويعتبر المنجرة أول شخص ينحت مصطلح”الحرب الحضارية”، أو على الأقل يضمن له الانتشار الواسع بعد نجاح كتابه، إلى حد أن الأمريكي صامويل هانتنغتون صاحب كتاب”صدام الحضارات”الصادر عام 1996 ذكر في مقدمة كتابه أن المفكر المغربي المهدي المنجرة كان السباق إلى استعمال مصطلح صراع الحضارات.
وقد حصل المنجرة على عدة جوائز، من بينها جائزة الحياة الاقتصادية سنة 1981 والميدالية الكبرى للأكاديمية الفرنسية للمعمار سنة 1984 وقلادة الفنون والآداب بفرنسا سنة 1985 وقلادة الشمس الشارقة باليابان سنة 1986 وميدالية السلام من الأكاديمية العالمية لألبير اينشتاين وجائزة الفيدرالية الدولية للدراسات المستقبلية سنة 1991.
وللمنجرة عدة كتب باللغات العربية والفرنسية، والمئات من البحوث والدراسات بالعربية والفرنسية والإنجليزية، وترجمت جل كتبه إلى عدة لغات أخرى، خصوصا كتابه”الحرب الحضارية الأولى”. ومن بين مؤلفاته”من المهد إلى اللحد” الذي ألف بشراكة مع باحثين آخرين في السبعينات بتكليف من منظمة اليونسكو حول قضية التعليم، و”الحرب الحضارية الأولى”، و”حوار التواصل” الذي صدر عن “سلسلة شراع” بطنجة، و”الإهانة في عهد الميغا إمبريالية”، و”عولمة العولمة”، و”انتفاضات في زمن الذلقراطية”.
ادريس الكنبوري