دَشَّنَتْ دارُ الفنون بالرباط يوم الثلاثاء 14-10-2014 سلسلةً من المحاضراتِ حول “التصوفِ والروحانية”؛ وتميزت الحلقةُ الفكرية النقاشيةُ الأولى من هذه السلسلةِ بنأيها عن أن تكونَ مجرد لقاءٍ فكري رتيب. رتابةٌ أضحت تُلقي بكَلْكَلِهَا على جَمٍّ من اللقاءات، بحيث تمحو كلّ دهشةٍ معرفيةٍ ضروريةٍ لفتح آفاق الفكر والمعرفة على مزيد رحابةٍ لاختراق المجهول. خلافَ ذلك، لقاءُ دار الفنون كان ضيافةً معرفية كريمةً قدم لها د.سمير حلوي، وأعد قراها د. خالد ميار الإدريسي بموضوع له راهنية أكيدة وأبعاد متعددة وتجاذبات شائكة، ويتعلق الأمر بإشكالاتٍ وأسئلةٍ يطرحها بقوةٍ التفكيرُ في “القيم الروحية وتحديات ما بعد الحداثة”.
و لعلَّ ما أسعفَ في النأيِ بهذا اللقاءِ عن آفةِ الرتابة، في الحد الأدنى، عاملان اثنان: أولا، تصديرُ اللقاءِ و ختمهُ بإنشادٍ سماعي صوفي يستدعي الأحوالَ بالأنظامِ والأنغامِ، ويولجُ المذاقات في الإيقاعات و بهاءَ المعنى في معنى البهاء؛ و ذلك في انصهار لطيفٍ ينسجُ كيمياءَ سعادةٍ ترتعشُ لها القلوب وتنتعشُ بها الأرواح؛ و في سَفَرٍ ما يفتأ يُسفِر عن رحابة ما تكتنزهُ السرائرُ السكرى بمحبة الحقِّ مِن مغيوب المعانِي والأسرار. العاملُ الثاني الذي طردَ الرتابةَ عن هذا اللقاءِ هو الأفقُ المفتوحُ الذي طرح به الأستاذُ خالد ميار موضوعَه، إذ لم يبسط خلالَه حقائقَ مطلقة أو نتائجَ مُغْلَقة، بل حاول أن يقدم توصيفا لأهمِّ التحديات الفكرية والروحية والأخلاقية والتربوية والإعلاميةِ التي يطرحها فكر/ مرحلةُ “ما بعدَ الحداثة” اليوم بما هو، أساسا، أفق فكري يعيد النظر في كل مُسَلَّمَاتِ الحداثة، ويَفضَحُ فشلَها ونقضَها لوعودِها التنويرية المتمحورة أساساً حول الإعلاء من شأن العقل والإنسان.
ومنذ البداية أعلن ذ. ميار عن استنكافهِ من تناول موضوعه تناولا أكاديميا صرفا، بل راحَ يُفصحُ عنْ “تَحَيُّزَاتِه” التي تؤطِّرُ “فرضِيَّاتِه”، وخلالها قدم توصيفاً لمختلف أشكال الزوبعةِ الفكرية والروحية والأخلاقية والإعلامية والتربوية التي تضعنا “ما بعد الحداثة” في مهبِّها، فعلى المستوى الفكري تعتَمدُ التشكيكَ في العقلِ و الموضوعيةِ وأحكام القيمة، ومن ثم ترفضُ كل الأنساقِ الفلسفية والدينية، مع الاعتراف بالنَّزَوي والمُتَشَظِّي والهامِشِي…؛ وعلى المستوى الروحي تُلغي و تَنفي كلَّ حقيقة مطلقة، و تنزعُ إلى التحلل من شكلانية الدين والتزاماته الشعائرية، كما تأخذُ بانتقائيةٍ دينية تميل نحو تدين افتراضي، و روحانية عابرةٍ للأديانِ إن لم تكن روحانيةً إلحادية، مثلما تتبنى رسوماً طقوسيةً بلا جوهرٍ تنزعُ نحو ما سماه المحاضِر بـ”الفولكلور الروحي” ؛ أما على المستوى الأخلاقي فإن “ما بعد الحداثة” تُعلن نهاية الأخلاق عن طريق تنسيب كلِّ القيم، مما يزجُّ بنا في مجتمع عنوانُه التفكُّك الاجتماعي والاغترابُ الروحي والمسخُ البيولوجي (التحول الجنسي، الاستنساخُ..)، والانغماس في العوالم الافتراضية، مجتمعٍ يسيِّد الصورةَ والفرجةَ و يعتنقُ الاستهلاكَ و”ضجيجَ المطالب”، حسب عبارة المُحاضِر، وهذا ما ينعكسُ بجلاء على المستوى الإعلامي، ويفعلُ فعله على المستوى التربوي بادعاء نهايةِ المعلِّم، والنزوعِ إلى جعلِ العملية التعليمية تلقينا للتقنيات وإكسابا للمهارات، على حساب العنايةِ بالبعد التربوي للإنسان وما تقتضيه من تنشئةٍ على القيمِ الكفيلة بحمايةِ كينونتهِ و فطرتهِ وإنسانيتِه.
إن “ما بعد الحداثة”، بهذا الاعتبار، تَئدُ الحقيقةَ و تُدنِّسُ المقدَّسَ و تمسخُ الكينونةَ، ومن ثمَّ فإنها تقودُ إلى تسييد آفاتٍ ثلاث تتضافرُ في تشييء الإنسان وتبضيعهِ وتنميطه وإفراغه من بعده المعنوي والذهاب بكينونتهِ نحو مآلات بلا ملامح. آفات تمَّ إجمالها في: الاستهلاكيةِ، والفردانيةِ، والعدمية. وهنا، يؤكدُ المحاضِر تحيُّزهُ و انحيازهُ إلى القيمِ الروحية التي من شأنها أن تُسهِمَ في تحريرِ الإنسانِ من “عبثيةِ” أفكارِ “ما بعدَ الحداثة”، بحيثُ تتدخلَ تلك القيمُ للإسهام في الحد من تلك الآفات الثلاثِ وتطويقِ آثارها، فتجاربُ الصلحاء والعرفاء الروحانيين تمدُّنا بما يمكن أن تُسهم به في التخفيف من غلواءِ الاستهلاكية و إنقادِ الفرد المعاصرِ من قساوةِ الفردانية وإعادة الاعتبار للمعنى الروحي انتشالا له من براثنِ العدمية.
لا أزعم أنني لخَّصْتُ ما ورد في محاضرةٍ أكاد أقول أنها كانت مطبوعة بـ”اللانسقيَّة”، وهو ميسمٌ قد يكون، من وجهةِ نظر معينة، نوعاً من الوفاء لما يُمَيِّز “الما بعد الحداثوية” من نزوعٍ إلى الانفلات من التعيّن والانضباط النسقي. على أن هذه الحركيةَ السارية في أوصال هذه المقاربةِ والبعدَ الزوبعيّ العاصف الذي تحلّت به تَبَدَّيَا، بوضوح، في غزارةِ المفاهيم المُوظّفة و في تجاذباتِ الرؤى المطروحة؛ والتي تجسدنت أيضا على مستوى لغةِ المحاضرة المرتحلةِ بين العربية الفصيحة والعامية المغربية والاصطلاحات الفرنسيةِ والإنجليزية.
ومع هذا وذاك، أجدنِي مشدوداً إلى تلكَ اللحظاتِ العابرةِ التي كانت “تُشرِقُ”، بين الفينةِ والفينةِ، بكلماتِ العارفين الروحانيين و”إشراقاتهم”، والتي كان يشيرُ بها المحاضرُ إلى تَحيُّزاتِهِ، ويوحي بها إلى ما تحملُه القيم الروحية من قدرةٍ على استجلاب “السكينة” الباطنيةِ المفقودةِ بل والمعدومة في الأفقِ “الما بعد حداثي”. وهنا تلزمنا وقفةٌ تساؤلية، مع القضية والمُحاضِر، لنتساءل: ما هي طبيعةُ القيم الروحية التي من شأنها أن تسهِمَ في التخفيف والإنقاذ والانتشالِ من آثار الاستهلاكية و الفردانية والعدمية التي تسير نحوها مجتمعاتنا الممسوسة بآفات “ما بعد الحداثة”؟ ثم كيف لنا أن نستحضرَ و نُثَمِّر هذه القيم في مجتمعاتنا الإسلامية التي تتجاذبُها بعنفٍ و قساوةٍ جواذِبُ ثلاثة: الموروثُ الثقيلُ للتقليدانية الدينيةِ بتناقضاتِها الداخلية؛ و طموحُ الحداثةِ التي تغزونا مادتيُّها فيما لا تزالُ حداثةً معطوبة على المستويات الثقافية والسياسية والاجتماعية؛ ثم شظايا “ما بعد الحداثة” التي مسَّت مجتمعاتنا على المستوياتِ الفكرية والروحية والأخلاقية والتربوية والإعلامية كما سلفَ معنا !؟ ثم ما المقصود بهذه “القيم الروحية”؟ هل نعني تجلياتِها في التجاربِ العرفانية الكبرى كما تصفها لنا كتبُ التراجمِ والمناقبِ وسيرِ العارفين ومأثوراتُهم المكتوبةُ والمروية، أم تلك القيم وقد “تمأسَست” في مؤسساتِ الصّلاح – أي الزوايا- والتي أصابتها التحولاتُ التاريخيةُ والمعرفيةُ والإيديولوجية بآفاتٍ تكاد تُضارِع تلك الآفاتِ التي آلت إليها “ما بعدَ الحداثة”(1)؟ ألا نحتاجُ اليومَ إلى تجديدٍ في فهم وتصريفِ تلك القيمِ الروحانية بما يُجَدِّد تلك الدهشةَ الروحيةَ التي كانتْ سرَّ فتحِ العارفين ومنبعِ قدرتِهِم على التأثيرِ والتغييرِ في مُحيطهم ولحظتهم التاريخية؟؟ ألا يوقِعُنا تبني الأشكالِ الطقوسيةِ الموروثَةِ عن الممارسة التاريخية الصوفية و المحافظةُ عليهَا- في خامّيتِها دون استبطانِ معانيها الروحية المتعالية- في ما يُشبِهُ “الفولكلورَ الروحي” الذي انتقدناهُ ضمن نقدنا لآثارِ “ما بعد الحداثة” ؟؟ ألسنا نحتاجُ، بإلحاح بليغ، إلى قراءةٍ روحية إحسانية متوهِّجَة جديدةٍ لنصوصِ الوحي وسيرةِ الإنسانِ الكامل صلى الله عليه وسلم وتجاربِ العارفين، بشكلٍ يجيب عن إشكالات المسلمِ المعاصرِ، وقضايا الإنسانِ المعاصر الكونيةِ وتناقضاتهِ الدنيويةِ والروحية على حدّ سواء؟؟ ألسنا نحتاجُ إلى التغذي الروحي بـ” لَحْمٍ طَرِيٍّ” لا بـ “القِدِّيد” على حدِّ إشارةِ العارفِ أبي مدين الغوث؛ أي التغذي الباطني بفتوحاتٍ عرفانيةٍ لنا و من جنسِ “وقتنا” وأفقنا لا لغيرِنا ومن “وقت” غيرِ “وقتنا” و أفق غير أفقنا؟؟، ثم كيفَ نتعامل، معرفيا و روحيا، مع قراءاتٍ أُخرَ لنفس الموروثِ الإسلاميّ العرفاني، والتي تجدُ فيه تقاطعاتٍ “فكريةً” مع “الأفق الما بعد الحداثي” الذي نسعى إلى تجاوز آفاته من خلال هذا الموروث؟؟، أفكر هنا، مثلا، في جملة من الدراسات التي تعثرُ في أعمالِ الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي على ما تنيرُ به فهمَهَا للأفق “الما بعد حداثي” والانفتاحات المعرفية والروحية اللامحدودة التي يتيحها(2)؛ كيف نواجِهُ هذه المفارقَة؟… إلخ.
يحتاج الأمر، إذن، إلى مزيدِ بحثٍ وفحصٍ و مجاهدةٍ، وإعمال للنقد المعرفي والعرفاني، بعيدا عن كلِّ مماهاةٍ “واهِمة” بين الانتشاءِ الذوقيِّ الرُّوحي والانتشاءِ بالعثورِ على “دواءٍ” جاهزٍ “لأدواء” ما بعد الحداثة ؛ مثلما يحتاجُ الأمرُ إلى ضرورةِ تمنيعِ التعامل مع القيمِ الروحية المُستدعاةِ على أكثر من جهة، سواء في العلاقةِ مع التبديعات والتفسيقات والتكفيرات السلفية القديمة – الجديدة؛ أو في العلاقة مع الواقعِ المتردي للممارسة الصوفية لجلِّ الزوايا ضمن تناقضات الحاضر و رهاناته؛ أو في العلاقة المعرفية مع ما تطرحهُ الحداثةُ وما بعدها وتضاربِ القراءات لنفس الموروث الروحي تضاربَ أسئلةِ و أدواتِ واحتياجاتِ ومواقعِ القارئين.
هذه مجردُ أفكارٍ وتفاعلاتٍ مع لقاءٍ ازدهى بالرحابةِ و انتفاءِ الرتابة؛ نطرحها شكرا للمنظمِين والمُحاضِرِ على كرمِ الاستضافة المعرفية. و ليس ثمة من شكرٍ معرفي أجودُ من إطالةِ أمدِ السؤال، وفتحِ ما طُرح في حلقة دار الفنون على رحابةٍ أوسع وأرحم؛ رحابةٍ معرفية وتأملية تُسهم في إبعادِ تلك الحلقةِ النقاشيةِ عن رتابةِ أخرى؛ رتابةِ أن تكون هذه الحلقاتُ هامشاً ثقافيا عابرا بلا امتدادٍ أو أثَر.
محمد التهامي الحراق
(1) راجع هنا رصدنا للآفات التي وقعت فيها الزوايا في لحظتنا الراهنة، والتي حددناها في: الإفشائية، الحظوظية، الفولكلورية، التعصبية، أنظر: ” تجديد عمل الزوايا: رؤية استشرافية”، نشر على موقع “إسلام مغربي” ثم على موقع “هسبريس” بتاريخ 22/01/2014.
(2) راجع مثلا، على اختلاف في مستويات ومنطلقات القراءة، بعض أعمال ندوة “ابن عربي في أفق ما بعد الحداثة”، تنسيق محمد المصباحي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2003م؛ أو كتاب “التصوف والتفكيك – درس مقارن بين ابن عربي ودريدا”، إيان ألموند، ترجمة حسام نايل، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2011، أو كتاب “الكتابة والتصوف عند ابن عربي”، خالد بلقاسم، دار توبقال، الدار البيضاء، 2004….إلخ.