عند الاطلاع على بحوث ودراسات علم النفس والأعصاب خلال السنوات القليلة الماضية، ندرك بأننا شهدنا خلال الآونة الآخيرة تغيرات كبرى في النتائج المتعلقة بدراسة طبيعة الدماغ، أهمها قابلية الدماغ على التغير من الولادة إلى الممات. وقبل فترة وجيزة، اعتقدت التيارات العلمية السائدة بأننا نولد بدماغ يخضع لتغيرات كبيرة في مرحلة الرضاعة والطفولة المبكرة، ثم يستقر في مرحلة النضج طوال حياتنا.
لكن العلم لا يعترف بالمسلمات، فنحن بتنا نعلم اليوم أن بعض المناطق في الدماغ لا تتوقف عن التطور أبداً، فالخلايا العصبية الجديدة تنمو فيه بتواتر هائل. وقد أفسحت نظرية ثبات الدماغ الطريق لظهور فكرتي: مرونة الدماغ والخلايا العصبية.
وبينما يميل الكثير إلى الاعتقاد بأن المهارة العقلية العالية والقدرة البدنية تصلان إلى منتهاهما في مرحلة الشباب، تظهر إحدى الدراسات الجديدة بأن هذه الفكرة خاطئة إلى حد بعيد.
وتستند نتيجة الدراسة التي نشرت في مجلة (العلوم النفسية- Psychological Science) على بيانات لعينة كبيرة من الأشخاص، الذين يصل عددهم إلى نحو 50 ألف شخص، وتتراوح أعمارهم ما بين مرحلة المراهقة إلى السبعينات. وأظهرت أن القدرة العقلية متفاوتة عبر السنين، مع بعض القدرات التي تبلغ ذروتها في وقت مبكر، وأخرى تستغرق عقوداً للنضوج.
وعلى سبيل المثال، وجدت الدراسة أن سرعة معالجة الدماغ تكون أسرع عندما تبلغ أعمارنا نحو 18 عاماً، بينما تنخفض ببطء كلما تقدمنا في العمر. لكن هذا لا يغير من حقيقة أن مهاراتنا في المفردات اللغوية، ومهاراتنا الكتابية والشفوية، تتطلب سنوات عديدة أخرى، قبل أن تصل إلى أوجها في الستينات والسبعينات.
ونحن بوصفنا بشراً نكون أكثر قدرة على تذكر الأشياء التي نراها (الذاكرة البصرية العاملة) عندما نكون تقريباً في سن الـ25، لكن قدرتنا على تذكر الأرقام لا تصل إلى ذروتها إلا بعد 10 سنوات أخرى. أما الذاكرة قصيرة الأجل فلا تكتمل حتى نقترب من منتصف العمر بشكل عام (وغالباً ما يكون ذلك في عمر الـ35 تقريباً).
ويقول جوشوا هارتسهورن، أحد مؤلفي الدراسة من قسم علم النفس في جامعة هارفارد: “في أي عمر معين، فإنك تتطور وتصبح أفضل في بعض الأمور، لتزداد الأمور سوءاً في بعض النواحي الأخرى. وربما ليس من عمر معين يمكن تحديده للوصول إلى الذروة في معظم الأمور”.
وبمعنى آخر، فإننا جميعاً نعد بالغين متأخرين في نواحٍ معينة، كذلك يصل القليل منا لأعلى طاقاته في شبابه.
ومن إحدى القدرات العقلية الأكثر إثارة للاهتمام، مما ركزت عليه الدراسة، هي قدرتنا على قراءة الآخرين، أي تحديد المشاعر التي تظهر عليهم أو تغيب عنهم. ووجد الباحثون أن هذه القدرة لا تكتمل قبل الأربعينات من العمر، لتستمر في الاكتمال والنضج لعدة سنوات أخرى حتى الستينات من العمر.
وتقول لورا جيرماين، الباحثة المشاركة في الدراسة: “يبدو أن الدماغ يستمر في التغير بطرق حيوية وديناميكية خلال مرحلة البلوغ المبكرة ومنتصف العمر. وترسم الدراسة الحالية صورة تختلف للطريقة التي نتغير بها خلال مراحل العمر عن الصورة التقليدية التي رسمها علم النفس والأعصاب”.
وعلى الأرجح، فإن نتائج مثل هذه ستستمر في إبطال الافتراضات التي ارتكزت على اعتقاد ثبوت الدماغ.
فوربس