ارتبطت العطلة لدى جيلي أيام الطفولة والصبا والتحصيل والتعلم بمدارسنا على ما أذكر بالتحرر، فكانت أيام العطل بمثابة إعلان عن انعتاق من قيود أقسام الدراسة وسطوة المعلمين وتسلطهم والذين كانوا بحكم تواطؤهم غير المعلن و تعاقدهم غير المدون مع ذوينا وولاة أمورنا وحتى آباءنا وأمهاتنا يستبيحون كل صنوف الضرب من أجل أن نكون تلاميذ نجباء وناجحين. فارتبطت مؤسسات التدريس في لاوعينا الطفولي بهذا البعد ” السجني” الذي كان يرى بأن نهاية الفصل الدراسي، بداية لحياة جديدة تستعيد الأنفاس وتستعد لموسم دراسي جديد يتلازم فيه التحصيل وتوديع الحرية.
غير أن هذه الذكرى الراسخة في وعي جيل بأكمله والجيل الذي تلاه بقليل، لا تبعث على الضجر أو الاشمئزاز في كثير من الأحيان، بل هي مزيج من الحنين لفترة كان المعلم في القسم يؤمن بأنه يستكمل مهمة الأسرة ويسهر على رعاية هذا الطفل التلميذ، ويستهلك طاقة لا تضاهى في أن يكون له شأن في المستقبل، فكان أغلبهم أصحاب رسالة مجتمعية يعتقدون أنهم يزودون المستقبل بالأطر والكفاءات، ولذلك تجدهم مغمورين بالفرح والسرور عندما يكتشفون عبقريات نادرة، أو إنقاذ أفراد من براثن الكسل والخمول، أو غير ذلك من وجوه الاجتهاد في الكشف عن محفزات توقظ الوعي النائم بضرورة تحمل مسؤولية النجاح وشروطه والصبر على الظفر به، فلم يكن “العنف” الحاصل حينها مجردا عن عواطف نبيلة لدى المعلم بأنه يسعى بجهده الكبير فقط لنجاحك وتفوقك لكي تكون نافعا لنفسك ومحيطك القريب والبعيد، ولذلك كانت مشاعر الخوف لدى أطفال ذلك الزمان تتبدد بمجرد ظهور “النتيجة”، ليصير التحرر من المدرسة ذا طعم خاص، ولذة تجعل من العطلة مرحلة فاصلة في الحياة تتبدل وتتنوع بحسب النمو العقلي والجسمي، ويكبر معها في نفس الآن حس المسؤولية والحرية في آن.
لقد كان المعلم محل تعظيم في وجداننا، لأنه لا يسعى بطرقه التي أثمرها اجتهاد ذلك الجيل إلا لخيرنا وإسعادنا، فكنتَ تجد المعلمين ينتظرون تلاميذهم بعد امتحانات الشواهد المفصلية يرفعون معنويات تلاميذهم ويفخرون بهم بعد ” النتائج”. كما كانت هناك صرامة مقرونة بالحرص على أن يصبح هذا الطفل الغض الطري رجل المستقبل بامتياز، ولذلك كانت ظاهرة الغش في الامتحانات في حكم النادر، وكان هناك تنافس محموم على نيل الدرجات العلى، إذ مثل هذه التربية على تحمل المسؤولية يستحيل معها الكذب والتدليس، بل لم تكن أحلامهم مقتصرة على إيجاد عمل أو مهنة بأي طريق كان، بل كانت أكبر من ذلك بكثير من حيث كونها تطلب و تستشرف تطوير الحياة المجتمعية . كما كانت التضحية قيمة مهيمنة لا تفسح مجالا للنزعات الأنانية والفردية الضيقة ، فلا تكاد تجد من نجا من براثن الأمية القاتلة واستطاع تحصيل شهادة مهما صغر شأنها أو كبر إلا و قد انبرى لمعاضدة أفراد أسرته الصغيرة أو الكبيرة من أجل استكمال حلم التنوير والتثقيف.
إن القضية لا تنفك عن سؤال الأولويات، وعن الانتظارات من كل خطوة نخطوها في هذه الحياة القصيرة جدا والطويلة بالنظر إلى استمرارنا في فلذات أكبادنا، الذين نريد أن يتربوا على المسؤولية والمصداقية لمواجهة تحدياتهم المنتظرة ليست بالضرورة بنفس أساليبنا التي نتذكر بعضا منها اليوم في مشارف العطل.