يبدو أن ثمة تصاعداً لمشاعر الخطر والقلق والخوف على ظاهرة الحياة على كوكب الأرض. وتتزايد الألسن التي تلهج بالسؤال عن طُرُق تحقيق استدامة الحياة على الأرض. هل مازال ذلك ممكناً بعد كل ما أُهدِر من موارد وثروات، وفُقد من كائنات وأنواع حيّة، وما تتعرّض له الطبيعة من تلوث وضربات متأتيّة من متغيّرات المناخ؟
الأرجح أن تلك المشاعر والهواجس لا تحول دون بذل الجهود الدؤوبة لحل معضلة البيئة. ويتوّقع أن يختتم العام الحالي بتوقيع اتفاقية ملزمة لحماية المناخ في سياق مؤتمر دولي واسع يُعقد في باريس، ويسبقه التوقيع على وثيقة عالمية للتنمية المُستَدامَة في أيلول (سبتمبر) المقبل.
وبات نافلاً القول بأن التنوّع البيولوجي Biodiversity يمثّل ركيزة أساسية لتحقيق تلك التنمية، مع تذكّر أن التنوّع الهائل في النباتات والحيوانات والكائنات الحيّة، حتى المجهريّة منها، يقدم خدمات لا حصر تخدم استمرارية الإنسان وحياته على الأرض. وتكتظّ عوالم التنوّع بأسرار شتى. إذ لم يتعرّف البشر إلى سوى 1.75 مليون من الأنواع الحيّة. في المقابل، يشير العلماء إلى وجود قرابة 13 مليون نوع حي، بل يذهب بعضهم إلى تقدير الرقم بقرابة مئة مليون نوع. وتتعالى صيحات العلماء والخبراء والاتفاقيّات الدوليّة والبروتوكولات المعنية بالتنوّع البيولوجي، منادية بضرورة إدراج قضية التنوّع البيولوجي مع كل ما يتعلق بها، في وثيقة أهداف التنمية المُستَدامَة لما بعد العام 2015.
في البحث عن صحة الإنسان
تعتبر صحة الإنسان أحد أهم المجالات التي يخدمها التنوّع البيولوجي. إذ تشير دراسات «منظمة الصحة العالميّة» إلى أن 80 في المئة من سكان أفريقيا يعتمدون على الأدوية العشبية التقليديّة، مصدراً أساسياً للعلاج. ويتضمن التنوّع البيولوجي ثروة من النباتات الطبيّة ومصادر الأدوية. وفي إطار الاهتمام بالأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للتنوّع البيولوجي، ذكرت المنظمة أرقاماً مهمة عن المرأة ودورها في إنتاج وحفظ مصادر من التنوّع البيولوجي ومنها البذور التي تلعب المرأة دوراً جوهرياً في حفظها وتخزينها. وكذلك يساهم التنوّع البيولوجي في التخفيف من آثار تغيّر المناخ، ويحد من مخاطر الكوارث، على غرار أشجار الـ»مانغروف» التي تحمي مناطق عدّة من آثار التطرف المناخي كالجفاف والفيضانات والتسونامي.
ويساهم التنوّع البيولوجي في حماية إمدادات المياه. إذ تعمل نُظُم البيئة المتوازنة على تنظيم تدفق الماء، وحماية صحة التربة. وتقدّم آلافاً من أنواع المحاصيل والحيوانات، ثروة من الجينات التي تساند ظاهرة الحياة على الكوكب الأزرق.
في سياق متصل، تقدم الغابات خدمات جليلة للتنمية المُستَدامَة و»الاقتصاد الأخضر»، بما تحويه من ثروات طبيعية وجينية وتنوّع بيولوجي. ووفق تقارير ودراسات والبحوث، تعتبر الغابات مكوّناً رئيسياً للتنوّع البيولوجي، ما دفع إلى اعتماد 21 آذار (مارس) سنوياً، يوماً دولياً للغابات. وتُصدر «منظمة الأغذية والزراعة» (الـ «فاو») تقريراً علمياً موثّقاً عن أحوال الغابات كل عامين.
وركّز تقرير العام 2014 على الدعم والتفاعل الإيجابي بين الإنسان والغابات، مشيراً إلى أن تلك العلاقة يمكن أن تزيد المنافع الاجتماعية والاقتصادية إذا سارت في شكلٍ متوازن.
وشدّد التقرير على ضرورة دراسة النشاطات الإنسانيّة في الغابات، التي تمثّل مزيجاً من الأشجار والبشر. ومن النقاط التي حذّر منها التقرير، وجود فجوة معرفية ومعلوماتية عن دور الغابات وما تحتويه من ثروات ونشاطات إنسانية مختلفة. وفي إطار اهتمامه بالمنافع الاجتماعية والاقتصادية وطرق استخدام الأفراد للغابات، رصد التقرير هيمنة العمالة الغير الرسمية في الغابات التي قدّرها بقرابة 41 مليوناً. وأوضح أن الغابات تقدّم فرص عمل لقرابة 13 مليون شخص، بينهم 5.5 مليون يعملون في شركات لانتاج الأخشاب الصلبة، و4.3 مليون في شركات الورق ولبه.
وفي الإطار نفسه، ركز التقرير على موضوع طاقة الخشب، التي تكون أحياناً المصدر الوحيد للطاقة. وبصورة عامة، يشكّل الوقود الخشبي قرابة 6 في المئة من إجمالي إمدادات الطاقة الأوليّة، كما يعتبر أكبر مساهم في إجمالي إمداداتها في أفريقيا (27 في المئة) وآسيا (5 في المئة) وأميركا اللاتينية (13 في المئة). وتساهم منتجات الغابات في توفير المأوى لقرابة 1.3 بليون شخص. ودعا التقرير إلى ضرورة تبني سياسات تحقق مفهوماً أوسع للإدارة المُستَدامَة للغابات، والتخطيط بالمشاركة، والإدارة الاقتصاديّة الجيدة.
وكذلك ركز في توصياته على ضرورة صوغ سياسات مبنية على الدراسات العلمية بشأن دور الغابات في توفير الغذاء والطاقة.
إشكاليّة الطيور والطاقة
من الموضوعات التي تحظى باهتمام واسع من العلماء والخبراء في التنوّع البيولوجي، تأثير النشاطات الإنسانية المتعلقة بالطاقات المتجددة على مسارات هجرة الطيور والكائنات الأخرى، إضافة إلى أوضاع الموائل الطبيعيّة لتلك الكائنات. وفي أواخر العام 2014، تناول «المؤتمر الحادي عشر لاجتماع الأطراف الموقّعة على اتفاقية حماية هجرة الكائنات»، تلك المسألة. وأشار خصوصاً إلى ما أعلنته «الوكالة الدوليّة للطاقة» عن زيادة إنتاج الطاقة المتجدّدة بقرابة 3 أضعاف بحلول العام 2035، مع تركيز خاص على الرياح والشمس والطاقة الحيوية.
وأصدر المؤتمر بيانات تؤكد زيادة المخاطر التي تتعرض لها الطيور المُهاجِرة، بأثر من وحدات توليد الطاقة من الرياح وخطوط الكهرباء. كذلك تؤثر الضوضاء في المحيطات وقيعان البحار على هجرة أنواع من الكائنات والأسماك. وأحياناً، تشكّل بعض المباني المشادة بطرق غير مسؤولة تضعها في تقاطع مع مسارات الطيور المُهاجِرة، مصدر تهديد لحياة الطيور.
ولذا، حضّ ذلك المؤتمر على الاهتمام بإدراج مسألة الطيور في دراسات تقويم الأثر البيئي، حاضاً على عمل مسوحات دقيقة قبل بناء وحدات الطاقة المتجدّدة، مع تقويم الوضع على الأرض، ودراسة مسارات الطيور والموائل الطبيعية للكائنات الحيّة. وفي سياق مماثل، منح المؤتمر أولوية لطاقات الرياح والشمس والمحيطات وجوف الأرض والمسطّحات المائيّة.
وفي سياق متّصل، أصدر «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» بالتعاون مع «مرفق البيئة العالميّة»، دليلاً إرشادياً لمـــساعدة الدول على اتخاذ إجراءات للحد من المخاطر التي تهدد الطيور والكائنات المُهاجِرة. كما صاغ تقريراً يدعو إلى تطوير تكنولوجيات في الطاقة يكون من شأنها تقليل التأثيرات السلبيّة على الطيور والموائل الطبيعية، كي تتحقق التنمية المُستَدامَة.
وفي السنة الجارية، رفع «اليوم العالمي لهجرة الطيور» International Migratory Bird Day شعار «إجعل الطاقة صديقة للطيور»، مشيراً إلى أن الانتقال إلى الطاقات الجديدة يفيد كوكب الأرض وبشره وطيوره وكائناته الحيّة كافة، لأنه يقلل من آثار التغيّرات المناخية ويحد منها.
وكخلاصة، من المهم التشديد على ضرورة البدء في اتخاذ التدابير اللازمة حيال ما يهدّد التنوّع البيولوجي الذي يعتبر ركناً أساسياً لتحقيق التنمية المُستَدامَة، بل لاستمرارية ظاهرة الحياة على الكوكب الأزرق. وللحديث صلة.
مي الشافعي – الحياة اللندنية