حتى اليوم، لم تثبت الأحداث تدني كلفة التقنيات الخضراء، والقدرة على استخدامها على نطاق واسع. ولكن في حال ثبت ذلك في المستقبل، فإن هذه التقنيات ستحتاج إلى أجيال من الزمن لتتمكّن من حلّ مشاكلنا البيئية.
يسعى البشر دون توقّف إلى الابتكار والتطوّير. وقد غيرت ثورة الإلكترونيات المعاصرة كل المفاهيم حول عدم التصديق بالتغيرات التقنية المقبلة، لأنها تفتح أمامنا آفاقا كبرى. ومنذ الستينات، شهد العالم نمواً سريعاً في عدد المكونات الإلكترونية التي يمكننا أن ندمجها في رقاقة صغيرة. هذا التطوّر، الذي يعرف بـ«قانون مور»، دفعنا لتوقّع تقدّم سريع في مجالات أخرى.
حضارة استهلاك الطاقة
ولكنّ حضارتنا لا تزال تعتمد على نشاطات تتطلّب إنتاجات ضخمة من الطاقة والمواد. إلا أن بدائل هذه المتطلبات لا يمكن إنتاجها بمعدلات تتضاعف كل بضعة أعوام. تعتمد مجتمعاتنا الحديثة على عمليات صناعية لا تعدّ ولا تحصى لم تشهد تغيّراً مؤثراً منذ جيلين أو ثلاثة. تتضمّن هذه العمليات الطريقة التي يتولّد منها القسم الأكبر من طاقتنا الكهربائية، وطرق استخراج الحديد والألمنيوم، وصناعة المواد الغذائية الأساسية وتغذية المحاصيل، وتربية وذبح الحيوانات، واستخراج الرمل وصناعة الإسمنت، والطيران، ونقل البضائع.
ينتج عالمنا الذي يبلغ عدد سكانه حوالي ثمانية ملايين نسمة، مخرجات اقتصادية تتجاوز 100 تريليون دولار أميركي. ويتطلّب الحفاظ على استمرارية عمل هذا المحرّك العظيم سنوياً ما يقارب 18 تيراواط (تيرا تقابل 10 أس 12، أي ألف مليار) من الطاقة الأولية، وحوالي 60 مليار طنّ متري من المواد، و2.6 مليار طنّ متري من الحبوب، وحوالي 300 مليون طنّ متري من اللحوم.
إنّ أي بدائل يمكن استخدامها بمقاييس مشابهة تتطلّب عقوداً من السنين لكي تنتشر في قطاعات في الاقتصاد العالمي حتى بعد التأكّد من انخفاض كلفتها وجهوزية تبنيها للاستخدام الجماعي.
تقنيات خضراء
– مزارع عمودية في المدن. تتمكن هذه المزارع بواسطة الزراعة المائية، إنتاج خضار ورقية، وطماطم، وفلفل، وخيار، وأعشاب، بكميّة مياه أقلّ بكثير من تلك التي تتطلّبها الزراعة التقليدية. ولكن إنتاج هذه المزارع يحتوي على نسبة ضئيلة جداً من النشويات، ويخلو من أي دهون أو بروتينات، ما يعني أنّه لا يمكن أن يلبّي الحاجات الغذائية للمدن الكبرى التي يتجاوز عدد سكانها 10 ملايين نسمة.
لهذا السبب، نحتاج إلى مناطق واسعة من الأراضي الزراعية المزروعة بمحاصيل الحبوب والبقول والمحاصيل الجذرية ومحصول السكر ومحاصيل الزيت، أي المنتجات التي يمكن تناولها مباشرة أو إطعامها للحيوانات التي تنتج اللحوم والحليب والبيض. يزرع العالم اليوم محاصيل مشابهة في مساحة 16 مليون كيلومتر مربع، أي ما يقارب حجم أميركا الجنوبية، بينما يعيش اليوم في المدن أكثر من نصف سكان العالم.
* تقليل الأسمدة بتطوير محاصيل تحصل على حاجتها من النيتروجين عن طريق امتصاصه من الجو. سيساهمّ هذه المحاصيل وبشكل كبير في انتفاء الحاجة إلى صناعة واستخدام أهمّ العناصر الغذائية التي تتطلّبها النباتات. اليوم، تعتمد الخضراوات فقط (وبعض عمليات إنتاج قصب السكّر) على البكتيريا التكافلية لتثبيت النيتروجين داخل النبات. إنّ اعتماد هذه القدرة التكافلية كغذاء رئيسي للبذور سيوازي بنتائجه ثورة زراعية طويلة الأمد. ولكن التكافل لا يحصل دون مقابل، فضلاً عن أنّ تثبيت النيتروجين البكتيري ليس موثوقاً مثل استخدام الأسمدة، لأن الخضراوات تدفع ثمناً كبيراً لقاء مشاركة منتجاتها الضوئية مع البكتيريا.
يبلغ متوسط إنتاج الولايات المتحدة الأميركية من الذرة اليوم 11 طنا متريا في الهكتار، تحتاج إلى حوالي 160 كيلوغراما من النيتروجين في الهكتار، في حين يبلغ إنتاجها من حبوب الصويا 3.5 طنّ متري في الهكتار، تحصل على كمية صغيرة إضافية تقدّر بحوالي 20 كلغم من النيتروجين في الهكتار.
ولكن هل ستحافظ محاصيل البذور على إنتاجها الكبير بعد تغذيتها بواسطة بكتيريا تثبيت النيتروجين التكافلية؟ وكيف سيكون أداء الميكروبات التي تمّت هندستها في تربات ومناخات مختلفة، وفي محاصيل مختلفة؟
– بدائل اللحوم، واللحوم المخصّبة. وهي تهدف إلى تخفيف الأعباء البيئية المرتبطة بإنتاج اللحوم. إلّا أنّ الحلّ الأفضل والأسهل سيكون ببساطة تناول اللحوم باعتدال.
لا تتطلّب التغذية الصحية استهلاك كمية سنوية تقارب ضعف وزن الإنسان من اللحوم، والتي تصل إلى 100 كلغم للفرد في بعض الدول كالولايات المتحدة الأميركية. إذ يمكننا إنتاج 30 كلغم فقط من اللحوم لتلبية حاجات ثمانية مليارات نسمة من خلال إدارة واعية وصحيحة للرعي وتغذية القطعان من بقايا المحاصيل والأطعمة الصناعية، مخلفات الطعام الهائلة.
سيارات ومركبات كهربائية
– التخلص من ثاني أكسيد الكربون. يشكل استخدام ثاني أكسيد الكربون المنبعث في خلايا الوقود، وإحراق ثاني أكسيد الكربون لتشغيل التوربينات، الاتجاه الأحدث بين مجموعة متنوعة من التقنيات التي تهدف إلى تقليل انبعاثات غازات الدفيئة. بدأت هذه الجهود في رصد الكربون وتخزينه قبل عقود ونمت بشكل ملحوظ منذ عام 2000.
– سيارات كهربائية. تشغل اليوم الحيّز الأكبر من تغطية الإعلام العالمي، ولكنّ هذا الابتكار يصطدم بمعوّقين أساسيين. فقد تمّ تطوير هذه السيارات في المقام الأول للتخلّص من انبعاثات الكربون الناتجة عن العربات التقليدية، ولكنّها في المقابل تتطلّب شحنها بالطاقة الكهربائية، في الوقت الذي يتمّ إنتاج ثلثي الطاقة الكهربائية حول العالم اليوم بواسطة الوقود الأحفوري.
حتى عام 2016، لم تتجاوز الطاقة الكهربائية المنتجة بواسطة الرياح والأشعة الشمسية الـ6 في المائة من الإنتاج العالمي، ما يعني أن السيارة الكهربائية ستستمرّ في اعتمادها على الوقود الأحفوري للتزوّد بطاقتها لسنوات طويلة قادمة. وفي عام 2017، وصلت المبيعات المتراكمة للسيارات الكهربائية إلى ثلاثة ملايين وحدة حول العالم، أي أقلّ بـ0.3 في المائة من المعدّل العالمي لركّاب السيارات. وفي حال افترضنا أنّ مبيعات السيارات الكهربائية ارتفعت بنسبة كبيرة، فإن هذه التقنية لن تنجح في التخلّص من السيارات العاملة بمحركات الاحتراق أو حتى تقليص الاعتماد عليها في السنوات الخمس والعشرين القادمة.
– سفن وطائرات عاملة بالبطارية. تتيح التصميمات المدعّمة بالبطارية أو خلايا الوقود للزوارق والعبارات البحرية الصغيرة القدرة لنقل حمولات أقلّ وزناً من ثلث حمولة سفن الشحن الكبيرة التي تعتمد عليها التجارة البحرية.
تتحرك السفينة الكهربائية الصغيرة لعشرات أو مئات الكيلومترات وتحتاج إلى قوة دفع تتراوح بين مئات الكيلوواط وبعض الميغاواط؛ بينما تنتقل سفن الشحن التقليدية أكثر من 10000 كيلومتر وتصل قوة محركاتها العاملة بالديزل إلى حوالي 80 ميغاواط.
أما الطائرات النفاثة العاملة بالبطارية فتعود إلى الفئة نفسها. وقد وضع كبار صنّاع الطائرات برامج مستقبلية في هذا المجال، ولكنّ التصاميم الهجينة – الكهربائية لا يمكنها أن تحلّ بسرعة محلّ الدفع التقليدي، وحتى ولو فعلت، لن تساهم في تقليل نسب كبيرة من انبعاثات الكربون.
وفي حال قارنتم طائرة صغيرة تعمل بالبطارية بطائرة بوينغ 787 مزدوجة القدرات (شخصان مقابل 335 شخصاً)، وسرعة (200 كلم في الساعة مقابل 900 كلم في الساعة)، وطاقة تحمّل (3 ساعات مقابل 17 ساعة)، سترون أنكّم ستحتاجون بطاريات قادرة على تخزين طاقة تعادل ثلاثة أضعاف وزن المركبة لتوفير كلّ ما تحتاجه لرحلة عابرة للقارات تعتمد بكاملها على الطاقة الكهربائية.
الشرق الأوسط