تتكاثر المعلومات وتتعاظم في هذه الحقبة من تطوّر المسار البشري حول مختلف المسائل التي تتعلّق بكل ما هو إنساني وحول أسرار الحياة وحول الكون الذي نعيش فيه. لكن بالوقت نفسه يلاحظ بوضوح أن هذا الكمّ الكبير من المعلومات حول مختلف الميادين موزّع بلا نظام محدد ومبعثر مما يطرح العديد من المشاكل العميقة والمعقّدة والمتداخلة.
ويبرز السؤال الكبير: كيف يمكن الربط بين مختلف المعلومات المتوفرة برؤية شاملة ؟. وكيف يمكن مواجهة مختلف المشاكل العميقة والمعقّدة؟. وكيف يمكن القيام بهذا كلّه من خلال العلاقة بين ما هو إنساني في الكائن وبين العالم الذي يعيش فيه؟.
على مختلف هذه الأسئلة يقدّم عالم الاجتماع والمفكر السياسي الفرنسي المعاصر الأكثر شهرة على الصعيد العالمي «ادغار موران»، الذي قدّم عشرات الكتب عرف العديد منها الترجمة إلى عدد كبير من لغات العالم، إجاباته بكتاب جديد صغير الحجم ــ 130 صفحة ــ ولكن الذي أثار الكثير من النقاشات والاهتمام. يحمل الكتاب عنوان «التفكير الشامل».
تتوزع مواد هذا الكتاب بين ستة فصول يخص الأول منها «الثالوث البيولوجي ــ الاجتماعي ــ التاريخي» الذي يؤثر في تكوين الشروط الإنسانية.وفصل عن «مفهوم»الفرد«والثالث يخص»الإنسان ومساره التاريخي«، وموضوع الفصل الرابع هو»العولمة«، ثم فصل عن» المستقبل: المحتمل وغير المحتمل وقوعه«. والفصل الأخير من الكتاب مكرّس لـ»الفكر المعقّد والفكر الشامل«.
ويشرح» موران«أنه من المطلوب في السياق الراهن عدم تقديم أيّة تنازلات فيما يخص مستقبل البشرية ومصيرها أمام ما تتسم به سمة الزمن الحاضر من سهولة أو أمام مستلزمات الأوضاع الراهنة. يتم التأكيد بأشكال مختلفة في هذا الكتاب على ضرورة»استيقاظ الضمير«حيال الآخر». هذا الكائن الذي يمكن أن يكون في العديد من الحالات «شديد الاختلاف عنّا… ولكن الذي يشبهنا إلى حد كبير أيضا».
كما يؤكّد ادغار موران في تحليله للبعد الاجتماعي للإنسان في الغرب اليوم على أن الحضارة الغربية ساعدت كثيرا على نمو وتعاظم النزعة الفردية عند الإنسان..ويرى أن مثل هذه النزعة يمكن أن تكون لها تبدياتها «الإيجابية» من حيث أنها تنمّي عند الأفراد المعنيين بها «حسّ المسؤولية» و«اختيار السبيل الذي يراد اختياره».
لكن بالمقابل يمكن لهذه النزعة الفردية أن تجد ترجمتها في تعاظم النزعة الأنانية وما يترتب على ذلك من انحسار لمفهوم التضامن الذي يُفترض أن يزدهر تحت سقف المواطنة. لكن الواقع الغربي يقول غير ذلك، بل عكس ذلك في أغلب الأحيان.
والإشارة أن أشكال التضامن التي كانت قائمة فيما قبل في إطار الأسرة والعمل والجيران لم تعد فاعلة في واقع الحياة اليومية. ويصل المؤلف في هذا السياق إلى التأكيد على تدهور مكانة «حس المواطنة» و«حس الانتماء الوطني». وبالإجمال يؤكّد ادغار موران أن «التضامن قد تراجع كثيرا» في العالم الغربي.
ويشير في هذا السياق أنه مما يزيد تعقيد إعادة النشاط للحس الإنساني واقع تكاثر أشكال العنف والحروب، خاصّة في ظل تعاظم ظاهرة التطرّف. هذا مع إشارته أن الغرب كان قد عرف منذ فترة غير بعيدة وجود حركات صغيرة متطرّفة مثل «الكتائب الحمراء» الإيطالية التي كانت تقوم بمختلف أشكال العنف على خلفية اعتقادها العميق أنها تخدم «قضيتها الثوريّة».
ومن الأخطار التي يرى المؤلف أنها تواجه إمكانية الحدّ من «الجنوح» الذي تواجهه الإنسانية اليوم هو أنه هناك «أجواء تساعد على نمو التطرّف». ويشير أن التطرّف في العنف الذي تشهده في السياق الحالي منطقة الشرق الأوسط هو الذي أثار «موجات الهجرة الكبيرة نحو أوروبا».
ولا يتردد إدغار موران في التأكيد أن هؤلاء المهاجرين يطرحون على الأوروبيين مشاكل تتعلّق بـ «استقبالهم» وبالبرهان على «حسّ التضامن معهم» من باب «الأخوّة في الإنسانية». وبعد تأكيده على «ألمه العميق»، وغضبه، من الموقف الأوروبي حيال المهاجرين وحيال «الإنغلاق الأناني» الذي أبداه 350 مليونا من الأوروبيين حيال بضع عشرات الآلاف من الهاربين من الجوع ومن الرعب ومن الموت.
والإشارة في هذا السياق أنه ليس هناك «حل مباشر» لهذه المشكلة المطروحة. بل ليس هناك أي «تفكير شامل» يمكنه أن يكون قادرا على مواجهتها. بالتالي ينفلت عقال العنف أكثر فأكثر. هذا مقابل الغياب شبه الكامل للاهتمام بمصير الإنسانية وما يترصّدها من أخطار حقيقية.
ويصل في الفصل الأخير حول «المستقبل: المحتمل وغير المحتمل» يصل إلى تحديد خطرين أساسيين يرى فيهما تهديداً حقيقياً للمستقبل الإنساني.
ويحدد الخطر الأوّل في «الهيمنة غير المعقولة»، وبعيداً عن أيّة كوابح، لأسواق المال العالمية. ويترتب على مثل هذه الهيمنة رؤية للعالم «من خلال الأرقام»، وما يعني بالتالي عدم الاهتمام بالجوانب الإنسانية في حياة البشر وما يمكن أن يعانوا منه من آلام وما يواجهونه من مصاعب في الحياة.
الخطر الثاني يحدده المؤلف في مختلف أشكال «التزمّت والتطرّف» التي يتعاظم وجودها في العالم اليوم. ويجد أن مكمن الخطر الكبير فيها أنها لا تعترف بوجود ؟الآخر«، بل هي تقوم أوّلا وأساسا على»نفيه«.
ونتبين في الخلاصة، أن المؤلف يدعو في هذا الكتاب إلى النظر للإنسان في العالم اليوم على أنه»فرد«و» كائن اجتماعي«و» جزء من بني الإنسان«. وبالإجمال يقول بـ»التفكير الشامل«، بمعنى أن مصائر الإنسان والإنسانية والعالم الذي تعيش فيه تترابط وتتداخل. ثم تأكيده أن السياقات الراهنة تتطلّب هي الأخرى تفكيرا شاملا يفرضه واقع الإنسانية» المأخوذة في سياق محموم من العولمة.
البيان