إن تجاوز التأرجح بين هذين القطبين (قطب الرهبنة، وقطب التكاثر) يندرج ضمن مفهوم التوسعة الذي تتجلى من خلاله الهيمنة، وهو تجاوز يستكمل أبعاده ويتم، بإضافة مفهوم الميزان “والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان. وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان” [الرحمن، 7-9]، وهو مفهوم نقف على سريانه في كل مفردات الأداء الحضاري الإسلامي من خلال تأطير وتوجيه رائعين بالآيات والأحاديث المتكاملة. تتم الهيمنة أيضا من خلال “الضبط التأويلي” بتحديد أصوله وقواعده، وتبيان موقع النص والعقل ودور الإنسان ومسؤولية العالم…؛ حيث يقوم القرآن المجيد من خلال هذا الضبط بتنقية ما اعترى العقل الجماعي المسلم بسبب تسرب بعض ما كان في الأمم السابقة بفعل التداخلات التي تقع من الناحية المفاهيمية والانكسارات المعرفية التي تحصل تحت تأثيرات اجتماعية أنثروبولوجية وأخرى تاريخية.
كما نجد أن الهيمنة في القرآن المجيد تتجلى من خلال فتح المفهوم، وفتح المعتقد بطريقة تجعلهما مستمرين شاملين مستوعبين لكل عصر ولكل مصر؛ فتلتقي الهيمنة بهذا المعنى مع خصيصة الشمول والاستيعاب في القرآن الكريم.
وفيما يلي سوف نرصد منهجية عمل آلية الهيمنة في القرآن الكريم باعتبارها من مكونات منهجه النقدي من خلال كلمة مفتاح هي كلمة “الربّ”.
إن القرآن عبارة عن ترتيل، وهو الترتيل الذي يشبه بيت الرُتيلاء التي تنضُد وتنسّق وتُحسّن البناء بطريقة تقوم على التفاضي والاتصال المطلق بين كل مكوناته (Web)؛ بحيث يكون المتعامل مع القرآن المجيد ،وفق هذا النموذج من المقاربة، حالاّ مرتحلا في كل حين منتقلا بين أرجاء القرآن المجيد كما قال عليه الصلاة والسلام (أحب العمل إلى الله تعالى الحال المرتحل، قال: وما الحال المرتحل؟ قال: الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره، كلما حلَّ، ارتحل) أخرجه الترمذي والدارمي. وهذا المفهوم هو الذي ركّز عليه المفسرون حين قالوا: (ويفسر بعضه بعضا)، ذلك أن أول تفسير للقرآن المجيد هو عين تفسيره لذاته.