أعاد نجاح هيئة الفضاء الهندية مؤخراً، في إطلاق 20 قمراً صناعياً على صاروخ واحد، مسجلة رقماً قياسياً جديداً لبرنامجها الفضائي، الحديث عن الأعداد الهائلة للأقمار الصناعية التي تجوب المدارات حول الأرض، التي يقدر عددها بالآلاف، ومدى أهميتها للعلماء والباحثين، بما ترسله من معلومات وبيانات في مختلف المجالات. وتقدم هذه الأقمار، على مدار الساعة، صورة كاملة تتضمن تفاصيل حياتنا على هذا الكوكب، بما يصح معه القول إن الحياة على الأرض يتم التخطيط لها من الفضاء، أو ما يمكن أن نسميه «البرمجة الفضائية» أو «البرمجة الفلكية».
من بين ال20 التي أطلقتها الهند، ونجحت في الوصول إلى مداراتها المحددة بعد نحو 26 دقيقة، هناك 17 قمراً صناعياً تعود ملكيتها إلى دول أخرى، بواقع 13 قمراً للولايات المتحدة، و2 لكندا، وواحد لكل من ألمانيا وإندونيسيا، بينما كان نصيب الهند 3 أقمار: اثنان لجامعات هندية، والقمر الأهم «كارتوستات 2» يهدف لمراقبة الأرض. ورغم ذلك ما تزال روسيا والولايات المتحدة تحتفظان بالأرقام القياسية لإطلاق أقمار صناعية على متن صاروخ واحد، بعدد 33 و29 قمراً على التوالي.
في تقرير لها، أشارت مجلة «نيو ساينتست» العلمية إلى وجود آلاف الأقمار الصناعية السابحة في الفضاء، تجمع بيانات دقيقة عن كل ما يجري على الأرض، من تغييرات مناخية، وجيولوجية، ما يدفعنا إلى النظر بانتباه أكثر إلى أهمية إطلاق المزيد منها، وهي التي أصبحت توجه حياتنا بشكل كامل، تقريباً، أو ما يمكن أن نطلق عليه اصطلاحاً «البرمجة الفلكية»، أي توجيه هذه الأقمار للنسبة الأكبر من نشاطات البشر على الأرض، بدءاً من الاتصالات والسفر، وحتى مراقبة أعماق المحيطات، وتتبع أسراب الطيور والحيتان المهاجرة.
إلى ذلك عرض التقرير لوجهتي نظر تختلفان عن بعضهما بعضاً، الأولى حول الأهمية المتزايدة للأقمار الصناعية في رصد أحوال الأرض ومراقبتها، وتقديم كم هائل من المعلومات والبيانات عن كل ما يحدث على سطحها. والثانية حول المخاوف العالمية من عواقب زيادة الأعداد السابحة من الأقمار الصناعية في مدارات الفضاء. ولفت الانتباه إلى أن الأقمار المعنية بالدراسة هنا هي المصنعة خصيصاً لمراقبة ورصد الأرض، من مدارات تصل ارتفاعاتها إلى 600 كم، وتُستخدم في استكشاف الطقس ورصد الأمطار ومراقبة البيئة، وكذلك المسح الجغرافي والجيولوجي لسطح الأرض. وإن كان بعض هذه الأقمار يستخدم في التجسس، إلا أن تعبير: «أقمار صناعية لرصد الأرض» يعني في المقام الأول أنها للأغراض المدنية السلمية، وعموماً فإن ما يتم به معرفة نوع القمر الصناعي وغرضه، هو نوع ما يحمله من أجهزة علمية.
يُعتمد اليوم بشكل كبير على المعلومات المقدمة من مجموعة مهمة من الأقمار الصناعية، في رسم الخرائط بدقة عالية، والتخطيط لتحسين البنية التحتية في المدن، واختيار مناطق اجتثاث الغابات أو إعادة زراعتها، إضافة إلى المعلومات حول التنوع البيولوجي، التي تساعد على فهم البيئات التي تعيش فيها الحيوانات البرية، وأهميتها الخاصة لمجال الصحة في تتبع الظروف المرتبطة بانتشار الأمراض.
كما باتت الدول تعتمد على الصور والبيانات الواردة من عشرات الأقمار الصناعية، لرسم خرائط تقييم حدود المسطحات المائية والفيضانات، وإعداد أخرى بالأضرار الناجمة عن الزلازل الكبرى، ورسم خرائط دقيقة لذوبان الثلوج والقمم الجليدية. وتظل المساهمة الأهم والأكبر في تطوير عالم الاتصالات، الذي أصبح العامل المشترك الأهم بين البشر على الأرض.
والظاهرة اللافتة هنا فيما يخص الأقمار الصناعية الحديثة، ليس فقط زيادة أعدادها، أو تطور التقنيات العاملة بها، والتخصص الدقيق لبعضها، بل دخول عدد من شركات القطاع الخاص إلى مجال تصنيع الأقمار الصناعية، التي لم تعد حكراً على الحكومات، أو الهيئات العلمية والبحثية التابعة لوكالات الفضاء الكبرى، مع الأخذ في الاعتبار تنامي تقنية «كيوب سات»، أي الأقمار الصناعية الصغيرة ومتوسطة التقنية، التي بات بالإمكان تصنيعها وإطلاقها في المدارات القريبة من الأرض.
ومن شركات القطاع الخاص التي دخلت على هذا الخط، تبرز أسماء شركات كبرى مثل: «سبايس أكس»، و«آسترو ديجيتال» التي تتعاون مع مركز «آميس» للأبحاث التابع لوكالة «ناسا» في «ماونتن فيو» بولاية كاليفورنيا، ويهدف هذا المشروع المشترك إلى إرسال قمر صناعي مخصص، لرسم خرائط بالغة الدقة للمساحات الزراعية وأنماط الزراعة، وفي هذا السياق قال أحد مسؤولي «آسترو ديجيتال» لمجلة «نيو ساينتست»، إن الأمر ليس مجرد رسم خرائط للمزروعات، بل توفير قاعدة بيانات واسعة، قد تسهم في تغيير مفاهيم الزراعة إلى حد كبير.
وتُعد مراقبة المحاصيل من خلال الأقمار الصناعية، أحد أساليب الزراعة الدقيقة، التي تسهل مراقبة مؤشر نمو المحاصيل في الوقت الفعلي المحدد.
وكانت مجلة «نيو ساينتست» استعرضت في تقريرها عدداً من أهم الأقمار الصناعية التي تجوب حول الأرض لخدمة مشروعات مهمة، منها قمر «إيزا» التابع لوكالة الفضاء الأوروبية، الذي أطلق نهاية العام الماضي لقياس موجات الجاذبية في الفضاء، ويسعى العلماء من خلال هذا القمر الصناعي إلى اختبار تقنية جديدة في مرصد فضائي كبير، ينتظر إنشاؤه خلال 50 عاماً. وبخصوص ذلك قال يوهان ديتريش فورنر، المدير العام لوكالة الفضاء الأوروبية، إن الأبحاث الأساسية في هذا المجال تهدف لفهم العالم الذي نعيش فيه بشكل أفضل. مضيفاً أن المعلومات النظرية التي توصل إليها أينشتاين لا تزال مبهرة للغاية، وسيقربنا «إيزا» أكثر من تأكيد تنبؤاته بوجود موجات الجاذبية. وكان علماء من مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية، نجحوا في اكتشاف موجات الجاذبية عبر مرصد موجات الجاذبية «LIGO»، واعتبر رصدها اكتشافاً مهماً وبداية حقبة جديدة في علمي الفيزياء والفلك.
كذلك اعتبرت مجموعة أقمار«لاندسات» الصناعية، التي أطلقتها «ناسا» تباعاً منذ عام 1972 وحتى 2013، من أهم الأقمار السابحة في الفضاء.
مقبرة فضائية
مع الاعتراف بأهمية المعلومات التي توفرها الأقمار الصناعية المخصصة لرصد الأرض ومراقبتها، في المساهمة في تطوير أوجه الحياة على كوكبنا ونشاطات ساكنيه؛ فإن وجودها بهذه الأعداد الكبيرة سابحة في الفضاء، وفي ظل تطور تقنية صنعها وتبسيطها، يثير المخاوف من أن تتحول هذه الأقمار إلى «خردة فضائية» أو «سكراب فضائي» تهدد كوكبنا بشكل أو آخر، بعد أن تنتهي صلاحيتها بانتهاء مهمتها.
فقبل خمس سنوات، ارتفعت حدة التحذيرات الدولية من مخاطر «الخردة الفضائية» الناتجة عن أقمار صناعية ضلت مدارها الفضائي، أو تلك الناتجة عن تحطم أقمار قديمة انتهت مهامها، ونتج عن انفجارها ملايين الشظايا السابحة التي تكفي واحدة منها لا يتعدى حجمها سنتيمترات عدة، لتفجير أي مركبة فضائية أو قمر صناعي تصطدم به، بسبب سرعتها الهائلة التي تصل إلى 30 ألف ميل في الساعة.
وقد حذر الباحثون في الأكاديمية الروسية للعلوم في موسكو، في دراسة حديثة، من أن «الخردة الفضائية» تشكل أيضاً خطراً سياسياً، لأنه سيكون من الصعب تحديد ما إذا كان تحطم أي قمر صناعي ناتجاً عن اصطدام شظايا هائمة، أو تمت مهاجمته عن عمد من قبل دولة أخرى.
وهذا ما أكدته دراسة نشرتها مجلة «أكتا أسترونيتكا»، من أن الدول لن تكون قادرة على معرفة ما إذا كانت أي أضرار مستقبلية قد تلحق بالأقمار الصناعية العسكرية، ناتجة عن اصطدام خردة فضائية مصادفة، أو عمداً. وتناولت الدراسة حالة تحطم القمر الصناعي الروسي «بليتس» في عام 2013، مشيرة إلى أن تحطمه كان بسبب اصطدامه بشظايا ناتجة عن تدمير الصين أحد أقمارها الصناعية القديمة الخاصة بمراقبة المناخ، بعد انتهاء مهمته.
وكانت وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» نشرت قبل عدة أشهر شريط فيديو، أعدته بالتعاون مع مجموعة من العلماء من «المعهد الملكي البريطاني»، يوثق مشكلة «النفايات الفضائية»، ويوضح النمو الهائل في حجم الخردة الدائرة حول الأرض منذ عام 1957 حتى الآن. كما حذرت وكالة الفضاء الأوروبية، في أحدث تقاريرها، من خطر وجود ملايين القطع الصغيرة التي تدور في الفضاء، والتي قد تتسبب بسقوط قمر صناعي، أو مقتل رائد فضاء أثناء مهمة، مشيرة إلى أن السرعة التي يطير بها مسمار صغير في الفضاء، تزوده بقوة تفجيرية تعادل عدة قنابل يدوية عند اصطدامه بالأجسام الأخرى. ونظراً لأهمية وخطورة قضية النفايات، أرسلت الوكالة قمرين صناعيين مختصين بمراقبتها، وتمكنا من رصد نصف مليون قطعة أكبر من سنتيمتر، ونحو 300 مليون نفاية أقل من سنتيمتر.
وفي محاولة لحل هذه المشكلة وقعت 67 دولة في العالم في عام 2009، اتفاقية رعتها الأمم المتحدة لحماية الفضاء الخارجي تحمل اسم «كوبوس»، وضعت تصوراً للعلاج، مثل إنشاء بلدية فضائية لجمع النفايات، أو ربط الأقمار الصناعية الجديدة بنظام استشعار يجعلها تتحول إلى مدار جديد في حال اقتراب أحدها من آخر قديم، وأكثر الاقتراحات خيالية كان تخصيص مدار كمقبرة فضائية.
عبير حسين – جريدة الخليج