ما السعادة، وهل يمكن قياسها؟ وكيف تقاس؟ ما الذي يجعل أناسا أكثر سعادة من غيرهم؟ أو ما الذي يحدد مستوى سعادة الشعوب؟ هل هي الدول التي لا يؤثر فيها الأصل الاجتماعي والوضع الاقتصادي على فرص التعليم أو الترقي في السلم الاجتماعي؟ أم هل السعادة مرتبطة بمدى توافر أصدقاء حقيقيين نعيش بينهم مثلا؟ هل السعادة في كثرة المال؟ وهل إذا كانت الدولة على رأس قائمة الدول ذات الدخل المرتفع ستكون أكثر سعادة مما لو كانت في قائمة الدول ذات الدخل المحدود؟
لقد حاولت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD الإجابة عن هذه الأسئلة بصورة منهجية من خلال تطوير مؤشر لقياس درجة السعادة التي تتمتع بها الدول، أو هكذا يطلق عليه، وذلك في إطار مبادرة أطلقت عليها “مبادرة الحياة الأفضل”، والتي أصدر بمقتضاها تقريران عن درجة رضا الأفراد في دول المنظمة عن حياتهم، ويتم عرض مؤشر الحياة الأفضل في صورة مؤشر مركب للسعادة، ويتكون المؤشر المركب من عدة مؤشرات تستند إلى الحسابات القومية لهذه الدول، وإحصاءات الأمم المتحدة، ونتائج استطلاعات معهد جالوب الذي يجري من وقت إلى آخر استطلاعات للرأي العام بين الأشخاص الذين يعيشون في 140 دولة حول العالم. المؤشر أيضا يركز على الاختلافات بين النوع داخل الدول، أي بين فرص الإناث والفرص المتاحة للذكور، ويقارن الفروق بين ذوي الدخول المرتفعة وذوي الدخول المنخفضة (أعلى 20 في المائة من الحاصلين على الدخل في المجتمع وأدنى 20 في المائة من الحاصلين على الدخل في المجتمع)، واستنادا إلى درجة تقييم الحياة والتي تراوح بين صفر و10 يتحدد مقدار الدرجة التي تحصل عليها الدولة ومن ثم يمكن ترتيب دول العينة وفقا لهذه الدرجات.ح
لقد كانت المحاولات الأولى تركز على مستوى الدخل على أنه أهم مقاييس الرفاه في العالم ومن ثم مستويات السعادة، وذلك بافتراض أن الدول الأعلى في مستويات الدخل الفردي هي الدول الأكثر سعادة في العالم، غير أنه سرعان ما تحول الفكر في هذا المجال إلى التأكيد على أن نصيب الفرد من الدخل ليس الأداة المناسبة في هذا المجال لأن الرفاه والسعادة يشملان أشياء كثيرة لا يمكن قياسها من خلال متوسط نصيب الفرد من الدخل فقط، على سبيل المثال مستوى تعليم قوة العمل ومستوى الصحة التي يتمتع به الأفراد، أو حتى ربما الدرجة التي يتم بها استخدام الموارد الطبيعية القابلة للنضوب في عملية توليد الدخل. كذلك فإن هناك اتفاقا اليوم على أن السعادة في العالم الغربي لا ترتبط بمستوى الدخل بقدر ما ترتبط بصورة أكبر بطبيعة العلاقات الإنسانية.
بالطبع النمو الاقتصادي ليس شرطا أن يؤدي إلى تحسين مستوى السعادة من الناحية الحقيقية، فالسعادة الحقيقية ليست هي السعادة المادية وإنما السعادة الإنسانية، ولكن من المؤكد أنه لو كانت مستويات دخول الأفراد أو معدلات النمو في الدولة منخفضة فإن ذلك سيجعل الأفراد غير سعداء، ولذلك يتفق الكثير من الباحثين في المجال على أن التركيز لا بد أن يكون على مستويات النمو الاقتصادي للدولة.
عوامل الاستقرار الاقتصادي مثل التوظف تعد واحدا من عناصر الرضا عن جودة الحياة التي يعيشها الإنسان، وكذلك الاستقرار الوظيفي الذي يحصل عليه الفرد في الدولة، فكلما انخفضت معدلات البطالة ارتفع ترتيب الدولة في مؤشر السعادة والعكس، وكذلك المدة التي يقضيها العمال في حالة بطالة، فكلما طالت الفترة التي يقضيها العامل في حالة بطالة ارتفعت درجة تعاسته والعكس، ويأتي بعد العوامل المسؤولة عن الاستقرار الاقتصادي مستوى الرفاه المادي والاجتماعي كأهم محددات السعادة، فكلما ارتفعت مستويات الصحة ارتفعت مستويات السعادة، والعكس، كذلك كلما اتسع نطاق الشبكات الاجتماعية للفرد، حيث يوجد لدى الشخص قريب أو صديق يمكنه الاعتماد عليه وقت الشدة فإن ذلك يرفع مستوى السعادة والعكس. كذلك يعتبر الوقت الذي يقضيه الأشخاص في المتعة والفراغ من العوامل التي تؤثر في الصحة العقلية للأشخاص ومن ثم تؤثر بصورة كبيرة في درجة سعادتهم، وهكذا تتحدد السعادة بعناصر كثيرة بعضها بالطبع لا يمكن قياسه.
هذا العام صدرت النتائج النهائية لمؤشر الحياة الأفضل بواسطة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لـ 34 دولة هي الدول الأعضاء في المنظمة مضافا إليها البرازيل وروسيا، يقوم المؤشر على أساس حساب 11 بعدا من أبعاد الحياة لا تقتصر فقط على مستويات الدخول التي يحصل عليها الأفراد وإنما أيضا للجوانب المرتبطة بتوافر المساكن لهم، وطبيعة البيئة التي تحيط بهم، والشبكات الاجتماعية المتاحة لهم، وفرص التوظف المتوافرة، والأمان الشخصي، ومستويات التعليم والصحة، ودرجة ممارسة الديمقراطية، ودرجة رضا الأشخاص في الدولة بشكل عام عن حياتهم.
المنظمة أعلنت أن الجديد في مؤشر هذا العام أنه سيعمل بشكل تفاعلي ليمكن المقيمين في هذه الدول من التعرف على أوضاعهم بالنسبة للدول الأخرى، كما سيمكن المقيمين في هذه الدول من تقديم مقترحاتهم حول الأبعاد الأخرى التي يمكن إضافتها للمؤشر. كما أعلنت المنظمة أيضا أنها تنوي إضافة مجموعة أخرى من دول العالم والتي ليست أعضاء في المنظمة إلى قائمة الـ 34 دولة تباعا. أثبت التقرير أن هناك ثلاث قضايا أساسية يركز عليها الناس في جميع الدول بغض النظر عن مكان وجودهم وهي مستوى الصحة، ومستوى التعليم والرضا عن الحياة بشكل عام. ووفقا لنتائج التقرير الثاني، فإن الازدهار الاقتصادي يعد واحدا من العناصر ذات الصلة القوية بالرضا على طبيعة الحياة، يليه مستوى الدخل، وبهذه المعايير فشلت الولايات المتحدة أن تكون ضمن قائمة الدول العشر الأولى الأكثر سعادة في العالم، بينما وقعت دول مثل إسرائيل والدول الاسكندنافية ضمن قائمة الدول العشر الأكثر سعادة في العالم.
يفترض أن نتائج المؤشر تقدم دليلا لصانعي السياسة في هذه الدول لاتخاذ ما يلزم من سياسات لرفع مستويات معيشة السكان فيها مقارنة بدول العالم الأخرى في العينة. المشكلة الأساسية أن مثل هذه المتطلبات للسعادة يصعب تحقيقها من خلال إجراءات السياسة، وإن كانت التقارير المتخصصة تشير إلى أن إجراءات السياسة التي يمكن أن ترفع مستويات السعادة. من هذا الجانب تتمثل سياسات رفع السعادة في تلك السياسات التي تعمل على رفع مستوى التوظف ورفع مستوى جودة العمل الذي يؤديه الأفراد، والحرص على توفير مستويات عالية من الثقة والاحترام في المجتمع، والتي يمكن التأثير فيها من خلال السياسات التي تهدف إلى تحسين مستوى الصحة العقلية والجسدية ودعم الحياة الأسرية وتوفير تعليم جيد للجميع.
والآن ما أسعد عشر دول في العالم؟ الإجابة هي أنها بالترتيب وفقا للتقرير الدنمارك في المركز الأول، تليها النرويج في المركز الثاني، تليها النمسا في المركز الثالث، ثم هولندا في المركز الرابع وسويسرا في المركز الخامس وأستراليا في المركز السادس وكندا في المركز السابع وفنلندا في المركز الثامن وإسرائيل في المركز التاسع والسويد في المركز العاشر.
نأتي الآن إلى السؤال الحقيقي، هل فعلا هذه هي أسعد دول العالم؟ الإجابة هي أننا إذا قيمنا السعادة من المنظور المادي فإن هذه الدول بالتأكيد ستكون أسعد الدول على هذا الكوكب، ولكن إذا كان الوضع كذلك فلماذا ينتحر الناس بشدة في هذه الدول؟ إذن السعادة لا تقاس بالمادة أساسا، فكم من شعوب هي أكثر شعوب الدنيا رفاهة ومع ذلك يشعر الناس فيها بجدران العالم تضيق حولهم لتخنقهم مع كل ما هم فيه من ترف مادي، بل إن أعلى معدلات الانتحار والتخلص من هذه السعادة تحدث أساسا في هذه الدول، وأقل معدلات الانتحار تحدث أساسا في أقل الدول سعة من الناحية المادية، السعادة ربما تكون في راحة البال في الأمان النفسي والذاتي، أو بالتأكيد السعادة هي في القرب من الله.
نقلا عن الاقتصادية